الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من‭ ‬ذاكرة‭ ‬الجندي

بواسطة azzaman

من‭ ‬ذاكرة‭ ‬الجندي

حسن‭ ‬النواب

 

كنتُ‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬الناجين‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬الطاهري‭ ‬الدامية‭ ‬والتي‭ ‬فقدنا‭ ‬خلال‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬القتال‭ ‬الضاري‭ ‬عشرات‭ ‬الجنود‭ ‬والدبابات‭ ‬من‭ ‬كتيبة‭ ‬دبابات‭ ‬الكندي،‭ ‬سألني‭ ‬أحد‭ ‬جنود‭ ‬المشاة‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬الذعر‭ ‬من‭ ‬القصف‭ ‬الكثيف‭ ‬ليضطجع‭ ‬بجوار‭ ‬دبابتي‭: ‬

‭- ‬هل‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬الحرب؟‭ ‬

وقبل‭ ‬أنْ‭ ‬أجيبهُ‭ ‬خطفتْ‭ ‬طائرة‭ ‬معادية‭ ‬بانخفاض‭ ‬واطئ‭ ‬جدا‭ ‬ً؛‭ ‬كادت‭ ‬تجزُّ‭ ‬رأسينا‭ ‬بجناحيها‭ ‬الرماديين‭. ‬كان‭ ‬دَوِيُّ‭ ‬الطائرة‭ ‬من‭ ‬شدّتهِ‭ ‬قد‭ ‬أرغمنا‭ ‬أنْ‭ ‬ننكمش‭ ‬مثل‭ ‬قنفذين‭ ‬داهمهما‭ ‬الخطر؛‭ ‬ولما‭ ‬تطلَّعتُ‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬جندي‭ ‬المشاة‭ ‬وجدتهُ‭ ‬يشبه‭ ‬ليمونة‭ ‬صفراء،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬هتف‭ ‬هلعاً‭:‬

‭- ‬وجهك‭ ‬مثل‭ ‬صفار‭ ‬البيض‭. ‬

يبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬هدير‭ ‬الطائرة‭ ‬قد‭ ‬سرق‭ ‬الدم‭ ‬من‭ ‬وجهينا‭ ‬معاً‭. ‬لبثنا‭ ‬لدقائق‭ ‬نستردُّ‭ ‬أنفاسنا‭ ‬من‭ ‬الهلع‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬تراب‭ ‬الساتر‭ ‬يتطاير‭ ‬بتفاهةٍ‭ ‬نحو‭ ‬وجهينا‭ ‬حتى‭ ‬اختنقنا‭ ‬بغباره‭ ‬الممزوج‭ ‬برائحة‭ ‬البارود،‭ ‬عاد‭ ‬جندي‭ ‬المشاة‭ ‬يسألني‭ ‬بنبرةٍ‭ ‬مخنوقةٍ‭: ‬

‭- ‬مَنْ‭ ‬يكترث‭ ‬بما‭ ‬نعاني‭ ‬منهُ‭ ‬الآن؟‭ ‬

لم‭ ‬تمهلني‭ ‬القذيفة‭ ‬التي‭ ‬سقطتْ‭ ‬بغتةً‭ ‬بالرد‭ ‬على‭ ‬سؤاله؟‭ ‬فلقد‭ ‬أصابتهُ‭ ‬حفنة‭ ‬شظايا‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ ‬وصدره‭ ‬وهمدتْ‭ ‬أنفاسه‭ ‬على‭ ‬عجلٍ‭ ‬أمام‭ ‬أنظاري‭ ‬مثل‭ ‬حَمَلٍ‭ ‬وديعٍ‭ ‬تضرَّج‭ ‬بالدم،‭ ‬عيناهُ‭ ‬مغمضتان‭ ‬وثغره‭ ‬مفتوح‭ ‬وقد‭ ‬بانت‭ ‬قواطعه‭ ‬الأنيقة؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬ابتسامة‭ ‬بريئة‭ ‬وئدتْ‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭. ‬كنتُ‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدقائق‭ ‬الحرجة‭ ‬بأمرٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬فقط،‭ ‬أنْ‭ ‬تصل‭ ‬جثتي‭ ‬إلى‭ ‬أهلي‭ ‬ولا‭ ‬أبقى‭ ‬في‭ ‬العراء؛‭ ‬ولذا‭ ‬تحسَّستْ‭ ‬خرق‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬جيبي؛‭ ‬ولما‭ ‬تحقَّقتْ‭ ‬من‭ ‬وجودها،‭ ‬شعرتُ‭ ‬بفرحةٍ‭ ‬مبهمةٍ‭ ‬وبدأت‭ ‬أعدو‭ ‬مثل‭ ‬معتوه‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬حتى‭ ‬أتخلَّص‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬الذي‭ ‬أوشك‭ ‬على‭ ‬تدمير‭ ‬كياني‭. ‬ولما‭ ‬بقيت‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬معركة‭ ‬الطاهري،‭ ‬أيقنتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬القلق‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬الوغى‭ ‬أشدُّ‭ ‬رعباً‭ ‬من‭ ‬الموت؛‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يتعاطف‭ ‬معي‭ ‬ويؤمن‭ ‬بإحساسي؟‭ ‬كنتُ‭ ‬عندما‭ ‬أعود‭ ‬من‭ ‬جبهة‭ ‬الحرب‭ ‬بإجازة؛‭ ‬أمضي‭ ‬أيامي‭ ‬السبعة‭ ‬باحتساء‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬والاستماع‭ ‬إلى‭ ‬أغنيات‭ ‬عراقية‭ ‬تقطر‭ ‬لوعةً‭ ‬وحزناً؛‭ ‬وأمضي‭ ‬وقتاً‭ ‬بمطالعة‭ ‬الصحف‭ ‬بقنوطٍ،‭ ‬وأحيانا‭ ‬أقلّبُ‭ ‬صفحات‭ ‬كتاب‭ ‬بذهنٍ‭ ‬مشوَّشٍ‭ ‬ومظلم‭. ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬قلقة‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬إفراطي‭ ‬بالشرب،‭ ‬ومما‭ ‬زاد‭ ‬في‭ ‬قلقها‭ ‬أفراطي‭ ‬بالتدخين‭ ‬واحتسائي‭ ‬كؤوس‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬الثقيلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طعام،‭ ‬وفقدان‭ ‬الشهية‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬هذا‭ ‬مازال‭ ‬يلازمني‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬وحتى‭ ‬تنقذني‭ ‬من‭ ‬إدماني‭ ‬على‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إجازة،‭ ‬قرَّرت‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬العرّافات؛‭ ‬وجاءت‭ ‬منها‭ ‬بطلَّسمٍ‭ ‬مقروءاً‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬الآيات؛‭ ‬إذْ‭ ‬وعدتها‭ ‬العرَّافة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬شربت‭ ‬ذلك‭ ‬السحر‭ ‬مع‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬سأكرهها‭ ‬وابتعد‭ ‬عنها‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬ويبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬قدْ‭ ‬نجحتْ‭ ‬بدسِّ‭ ‬ذلك‭ ‬الطلَّسم‭ ‬في‭ ‬شرابي‭ ‬لأحتسي‭ ‬ذلك‭ ‬الكأس‭ ‬المسحور‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬علمي،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬مساء‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني؛‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬اكتف‭ ‬بنصف‭ ‬قارورة‭ ‬من‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم؛‭ ‬إنمّا‭ ‬أفرغتها‭ ‬بالكامل‭ ‬في‭ ‬جوفي‭. ‬حضرت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬لتجلس‭ ‬أمامي‭ ‬وإذا‭ ‬بها‭ ‬تعترف‭ ‬عمَّا‭ ‬فعلتْ‭ ‬بأحد‭ ‬الكؤوس‭ ‬التي‭ ‬شربتها؛‭ ‬ثم‭ ‬أردفتْ‭ ‬يائسة‭:‬

‭- ‬يبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬السحر‭ ‬لا‭ ‬يؤثر‭ ‬فيكَ‭ ‬أبداً‭.‬

‭ ‬أجبتها‭ ‬بقناعةٍ‭ ‬متهكماً‭:‬

‭- ‬وهل‭ ‬يؤثِّر‭ ‬السحر‭ ‬بمجنون؟‭ ‬

وعندما‭ ‬أخذني‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬حضن‭ ‬أمي‭ ‬إلى‭ ‬الحرب؛‭ ‬رأيتُ‭ ‬طيف‭ ‬الله‭ ‬كثيراً‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬جبهات‭ ‬النار،‭ ‬لكني‭ ‬رأيتهُ‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬ظلمةِ‭ ‬ليلٍ‭ ‬دامسٍ؛‭ ‬حين‭ ‬هبطتُ‭ ‬من‭ ‬شاحنة‭ ‬الأورال‭ ‬عند‭ ‬قاطع‭ ‬الفكة‭ ‬للالتحاق‭ ‬إلى‭ ‬وحدتي‭ ‬العسكرية‭ ‬كتيبة‭ ‬دبابات‭ ‬أشبيلية‭ ‬التي‭ ‬نقلتُ‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬تدمير‭ ‬كتيبة‭ ‬دبابات‭ ‬الكندي‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭. ‬اكتشفتُ‭ ‬أني‭ ‬تركتُ‭ ‬عجلة‭ ‬الأورال‭ ‬بموقعٍ‭ ‬مجهولٍ‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬يبعدُ‭ ‬عن‭ ‬وحدتي‭ ‬العسكرية‭. ‬ما‭ ‬أنْ‭ ‬خطوتُ‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬ترابي‭ ‬حتى‭ ‬هاجمني‭ ‬قطيعٌ‭ ‬من‭ ‬كلاب‭ ‬الجبهة‭ ‬المسعورة،‭ ‬كان‭ ‬نباحها‭ ‬الشرس‭ ‬يفزع‭ ‬حتى‭ ‬الظلام،‭ ‬وملامح‭ ‬الموت‭ ‬تنبعثُ‭ ‬مثل‭ ‬ألسنة‭ ‬النيران‭ ‬من‭ ‬عيونها‭ ‬التي‭ ‬تومض‭ ‬كحدقات‭ ‬الجن،‭ ‬تلك‭ ‬الكلاب‭ ‬التي‭ ‬شبعتْ‭ ‬من‭ ‬جثث‭ ‬الجنود‭ ‬القتلى؛‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬برعبٍ‭ ‬طيلة‭ ‬حياتي‭ ‬في‭ ‬جبهات‭ ‬الحروب‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الدقائق‭ ‬العسيرة‭ ‬التي‭ ‬وضعتني‭ ‬بمأزقٍ‭ ‬لا‭ ‬خلاص‭ ‬منهُ،‭ ‬كدتُ‭ ‬أفقد‭ ‬الأمل‭ ‬بالبقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬إذْ‭ ‬كانت‭ ‬رؤيتي‭ ‬معدومة‭ ‬تماماً‭ ‬في‭ ‬حندس‭ ‬الليل‭ ‬وستلتهمُ‭ ‬الكلاب‭ ‬الشرهة‭ ‬حتى‭ ‬أظفاري،‭ ‬وبكفٍّ‭ ‬مرتعشةٍ‭ ‬حرَّرتُ‭ ‬النطاق‭ ‬من‭ ‬خصري‭ ‬لأقبض‭ ‬على‭ ‬طرفهِ‭ ‬بيأسٍ‭ ‬وأحرّكهُ‭ ‬يميناً‭ ‬وشمالاً‭ ‬بمحاولةٍ‭ ‬لإنقاذ‭ ‬جسدي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وليمة‭ ‬لقطيع‭ ‬الكلاب‭ ‬المتوحش‭. ‬كانت‭ ‬المواجهة‭ ‬غير‭ ‬عادلة‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬الكلاب‭ ‬تدنو‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭ ‬مني؛‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬هريرها‭ ‬ولعاب‭ ‬سعارها‭ ‬المتوحش‭ ‬يتطاير‭ ‬على‭ ‬وجهي،‭ ‬فجأةً‭ ‬تدفَّقتْ‭ ‬من‭ ‬أعماقي‭ ‬صرخةٌ‭ ‬هائلةٌ،‭ ‬أجل‭ ‬صرختُ‭: ‬يا‭ ‬الله؛‭ ‬وانبريتُ‭ ‬أدور‭ ‬حول‭ ‬نفسي‭ ‬والنطاق‭ ‬أصبح‭ ‬يدور‭ ‬معي؛‭ ‬وإذا‭ ‬بالكلاب‭ ‬تتقهقر‭ ‬بلمح‭ ‬البصر‭ ‬وتختفي‭ ‬بسديم‭ ‬الظلام‭ ‬مع‭ ‬نباحٍ‭ ‬فاترٍ‭ ‬ومهزومٍ‭ ‬يندُّ‭ ‬منها،‭ ‬لقدْ‭ ‬آمنتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬تلك‭ ‬الصرخة‭ ‬لم‭ ‬تكنْ‭ ‬من‭ ‬أعماقي‭ ‬إنَّما‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الله‭.‬

 


مشاهدات 587
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2023/11/13 - 4:54 PM
آخر تحديث 2024/07/17 - 10:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 275 الشهر 7843 الكلي 9369915
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير