الإعلام واللغة العربية.. ترسّبات الواقع ورهانات المستقبل
سكينة العابد
ومضة: قال أبو منصور الثعالبي النيسابوري رحمه الله: "من أحب الله تعالى أحب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عُني بها ، وثابر عليها ، وصرف همته إليها".
يقول أحد الباحثين عن اللغة العربية:" اللغة عرس دائم للتزاوج بيني وبين اللغة العربية، عرس أعيش فيه على تعاطف العقل والوجدان في معادلة العقلانية والتناغم الواعي في مسألة الوجود الإنساني ... اللغة العربية أسكنها وتسكنني لأنها هي التي أبرهن بها أنني أنتمي إلى مجتمعي، إلى وطني، إلى أبناء أمتي، إلى الإنسانية، ولأنها وحدها القادرة أن تفصح عن شخصيتي، وعن أدبي، إنها قوتي وحضوري.
تذكرت هذه المقولة القوية وذكرى الاحتفاء باللغة العربية المصادفة ليوم 18 ديسمبر تحل علينا ، ولا مبالغة من القول أن اللغة العربية قد شهدت على مدار العقود الماضية الاغتيالات تلو الاغتيالات ، وعرفت تشريحا ونقدا وهجوما ودفاعا وغيرها من المفردات التي يمكن أن نشخص بها تاريخ وواقع العربية على الرغم من أنها لغة تمتلك كل القوة والأدوات لتكون لغة التقدم العلمي والإنساني على حد سواء.
ويمكن القول، أن العربية عانت كثيرا من نزوات بعض المفكرين والمنظرين حتى من أبناء جلدتنا الذين سيطرت عليهم عقدة الآخر ، وشغلتهم معضلة العربي والمتعرب والمستعرب، وتحكمت بفكرهم الأهواء والأحقاد والأوهام ، فبرمجت عقولهم على مسارات ملغمة لا تقدم للأمة سوى العجز والتأخر ، وتزيد من آفات التلوث العقلي ، والاضطراب الدائم .
وإن كان تركيزنا على هذه المرحلة فلقناعتنا بأنها توطئة لابد منها استقيناها من مجموعة من التحليلات والنظريات التي تراكمت وحفرت واستبدت بالعقود السابقة، لا لشيء سوى لكون اللغة العربية كانت تعيش شبه انهيار وانحسار أفرزته تداخل مشاكل هوياتية وسياسية ، ومن هنا نطرح أسئلة كبرى : لماذا تصدر الهجوم على العربية محليا وعالميا وكأن لا لغة إلا العربية؟ ما أبرز التهم التي تشظت أمامها العربية؟ وهل للإعلام سلطة على اللغة؟ وإذا كان كذلك فماهي مسؤولية الإعلام اليوم تجاه اللغة العربية؟
اللغة العربية من مشاريع العجز التقليدية إلى سياقات الشبكة العنكبوتية
الحقيقة أن العالم العربي وعلى الرغم من شساعته عاش بؤسا معرفيا قاتلا من خلال طغيان فكرة أننا من العالم الثالث، وأن لغتنا هزيلة لا يمكنها أن تحتل الريادة، فقابيلة الأدوار الأخيرة هذه جعلت من العربية راكدة في عقر دارها لا يفارقها اليتم القاتل ولا القهر المشترك .
فمن التهم التي ألصقت بالعربية كونها لغة تراث لاغير ، وبأنها لا يمكن لها أن تكون لغة إقلاع حضاري ، حيث انبرت أقلام النقد والجدل تنصب عليها بفتح أبواب النقاش على حقول مفتعلة وإشكاليات كقضية الفصحى والعامية ، وقضية صعوبة قواعدها، وازدواجية الفهم بين الخطاب والمكتوب وغيرها من التهم السطحية الملفقة.
بل إن بعض النقاد لم يتورعوا عن الجمع بين نقدهم للعربية وللإسلام على حد سواء كما يفعل المستشرقون الذين ألفوا مثل هذه الطروحات المبيتة، فكانت المفارقة التي عاشها العالم العربي في علاقته مع لغته هو عجزه على صون هذه اللغة، وعجزه عن التفكير بها بصورة خصبة وبناءة ومثمرة ، بل يمكن القول أن التفكير بها جاء في أحايين كثيرة مدمرا حتى للمكتسبات التي جنتها العربية طيلة العقود الماضية بدءا من نزول الوحي لغاية السنوات الأخيرة !
وعلى الرغم من كل معاول الهدم هذه من أبنائها أو حسادها صمدت اللغة العربية وحوت العلم والفكر والأدب، على الأقل في صورتها كأداة للتداول الرسمي والتعليمي على ما لحق بها من خدوش واضمحلال.
إن صراع اللغة العربية مع مهاجميها لم يحسم بعد، حتى جاءت سطوة الشبكة العنكبوتية التي كشف بسهولة فائقة عن العربية ومميزاتها وانتشارها مقارنة بلغات أخرى ، ففي إحصائيات أخيرة لسنة 2021 أظهرت أن من أكثر عشر لغات مستخدمة في الأنترنيت ، جاءت اللغة العربية في المرتبة الرابعة بعد الإنجليزية والإسبانية والصينية بنسبة قدرها 53 بالمئة أما من حيث المحتوى المكتوب فقد بلغ 1.1 بالمئة وبالتالي احتلت العربية المرتبة 11 عالميا ، وهذا التموقع الذي نعده متقدما ومتأخرا في الوقت ذاته مقارنة بلغات أخرى ووضعياتها حسب المختصين راجع لأمرين :
- قلة استخدام الانترنيت من مستخدمي اللغة العربية مقارنة بدول أخرى
- قلة استخدام العرب للغتهم وتفضيلهم للإنجليزية أو لغة أخرى.
وترمي هاتان الملاحظتان إلى التمهيد بالقول بأنه وعلى الرغم من الفجوة الرقمية الي يعانيها العالم العربي في مواجهة دول الغرب ، إلا أن العربية استطاعت أن تظهر إبداعاتها الاتصالية واللغوية عبر الشبكة العنكبوتية ، وأنها طوعت النظم التقنية المعقدة لصالحها ، فكانت شبكة العنكبوت في صالحا و أكثر قوة في الحفاظ عليها وفي فترة تاريخية وجيزة فاقت ما قدمته العقول على مدار عقود زمنية حتى أصبحت لغة للتواصل الرقمي متحدية مقولات الاستبعاد والحذف والإلغاء ، بل لا مبالغة من القول بأن العربية هي لغة معلوماتية وبلا منازع.
الاعلام واللغة: القوة الناعمة أم السلطة الضاغطة
كما يعلم الجميع نحن ننخرط اليوم ضمن عالم رقمي هجين إنسانيا ومعرفيا، يتشكل ويرسم أبعاده، يتداخل ويتشابك بصورة دينامية ليفرز مجتمعا متوحدا، يتفاعل من خلاله الأشخاص وحتى اللغات.
فقد أضحت الأنترنيت مكتبة العالم المفتوحة وهي بذلك تعد أهم تطور علمي عرفته البشرية، وعلى الرغم من أهميتها وضرورتها اليوم لكونها تقوي تقنيات الاعلام والاتصال، إلا أن سيطرتها ستفقد الكثير من اللغات المحلية حضورها وتأثيرها وذلك من خلال فرض لغة موحدة ومشتركة ومفاهيم اتصالية جديدة، وهنا تقف اللغة العربية لتتحدى أسئلة المحلية والعالمية؟ أسئلة الوجود واللاوجود!
وبما أن اللغة العربية هي عنواننا الحضاري والمطلب الوجودي الأبدي، فقد عاشت حصارا تكنولوجيا سرعان ما تحول بمنظور واقعي إلى فتح معرفي كبير نقل اللغة العربية من المحلية إلى العالمية وبصورة متسارعة وحركية فتحت لها الأفاق ، بل ليكون هذا الفتح التكنولوجي فتحا تاريخيا افتراضيا بفضل أجيال الأنترنيت المختلفة .
ومن هنا يأتي دور الإعلام بكل وسائطه، هذا الإعلام الذي شهد مع دخول الألفية تحولات كبيرة ولدت معها معتقدات وقيم وسلوكيات جديدة على المستويين الفردي والجماعي، لتنسحب أخرى.
وفي علاقة الإعلام باللغة العربية تبدو العلاقة وكأنها تبادل غريزي لكون الإعلام هو وعاء للغة ، وفي الوقت ذاته اللغة غذاء الإعلام بكل ما تحمله من إشارات وصور ورموز وأفكار ومفاهيم.
إذا، هناك علاقة وثيقة بين الإعلام واللغة، والتطور الهائل الذي تطور به الإعلام في علاقته بوسائل الاتصال جعله ناقلا للمعلومة و للمعرفة على اختلافها، لكن يبدو أن إشكالية الإعلام الكبرى عبر وسائطه التقليدية والجديدة هو تكريسه لازدواجية أو ثنائية الخطاب بين الفصحى والعامية، وكأن الإعلام تتجاذبه أطروحتان:
- الإعلام وعرض اللغة الفصحي بمميزاتها، وقوتها وجمالها أحيانا خصوصا في مجال الفكر والأدب والسياسة ..إلخ
- عرض اللهجات أو اللغة الدارجة أحايين كثيرة خصوصا وأنها الأكثر قربا من مستوى الخطاب والحديث
والتفاعل الفوري.
ومن هنا تبرز حقيقة قيام الإعلام العربي بدورين متناقضين في تباعد وتقارب، من خلال إبراز المناخ اللغوي لكل بلد عربي عبر لهجته وبشكل صارخ والحقيقة التي لا مراء فيها أن ازدواجية اللغة ما بين الفصحى والعامية لصيقة بكل اللغات ، لكن وفي تصوري فإنه مع اللغة العربية الوضع مختلف، فالعربية لابد أن تزدهر بالإعلام كما ازدهرت بالإسلام ! قد تبدو المقارنة بعيدة، بطرح سؤال هل تجوز المقارنة بين الاعلام والإسلام؟ وهل هذا الطرح صحيح أصلا؟ أقول إن قوة المقارنة تعزى في هذه الحالة إلى ما ذكره السيوطي في كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها حينما تحدث عن كيف استخدم الرسول عليه الصلاة والسلام اللغة من أنه كان يستخدم لهجة قريش إذا خلا لأصحابه وخاصته، وإذا زارته وفود من القبائل الأخرى لجأ إلى استعمال لهجاتها مختار أفصحها وأبينها ، وفي هذا المقام يقول الخطابي : اعلم أن الله لما وضع رسوله –صلى الله عليه وسلم- موضع البلاغ من وحيه ، ونصب منصب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها ثم أمده بجوامع الكلم.
ووجه الشاهد في الموضوع أنه ينبغي على الإعلام أن يكون بانيا وناشرا للعربية، وأن يكون محكوما بحركية الفصاحة والبلاغة قولا وكتابة وفهما، وهذه ميزة العربية التي لا يجوز التنازل عنها ، وعليه فالإعلام اليوم نراه يقوم بالدورين : كقوة ناعمة تمارس دور الاستقطاب والإقناع في إدراك الأهداف ، وكسلطة ضاغطة لأن الإعلام وسيلة يخضع لها الجميع ، ولا يمكن التخلي عنه بمنظور الوفرة والتنوع والإشباع والبنية الإنتاجية الدائمة.
وفي الأخير نقول : إن كونية الإعلام تتقاطع مع كونية اللغة العربية في بعدها التاريخي والروحي والمستقبلي، فالذي يبدو ماثلا أمامنا راهنا هو التجاذبات الثقافية واللغوية في ظل الطفرة التكنولوجية التي سطت على العقول لتساءل القيم والأخلاق والحدود الجغرافية التي أضحت خطوطا خلفية وهمية .
وبالمحصلة فإن حدود الإعلام مع اللغة تحددها ثلاثة أبعاد هي:
- البعد الأول: إعلامي من خلال تعزيز الإعلام في سياقاته التقليدية والشبكية للفصحى والوقوف حيال تمييع اللغة وتسطيحها.
- البعد الثاني: رقمي ويتمثل في الاهتمام أكثر بالعالم الرقمي كمرجعية تؤدي الدور وتحميه من قوة التحولات والمتغيرات الحتمية.
- البعد الثالث: إنساني وهو الجوهر والأساس فالإيمان بالذات والإقرار بالحضور، ونصرة الفصحى قولا وعملا سيكون هدفا قريبا وبعيد وإلا فإننا سنجد أنفسنا أمام لغة هجينة ومشوهة، تقابلها فصحى مختزلة ضمن جدران المدارس ومدرجات بعض الجامعات وهذا لا يخدم اللغة العربية التي صمدت قبل ظهور الإعلام ولا نريد لها أن تفنى بهذا الإعلام!
{ أكاديمية وكاتبة