جهاد السيد نور السيد عزيز الياسري في ثورة العراق التحريرية 1920
رؤية معاصرة للوثائق السرية البريطانية
احمد عبد المجيد
كلما تمر العقود وتمضي الحقب، نحتاج الى من ينفض عن اسرار تاريخ العراق غبار النسيان أو محاولات الاهمال السياسي والعشو البحثي. ولعل آخر جهود الباحثين البارزين في هذا المضمار، الدراسة العلمية الرصينة التي اضطلع بها المؤرخ والاكاديمي العراقي البارز المقيم في الولايات المتحدة عادل الياسري سليل عائلة عرفت بالوطنية والعلم والثبات والتقوى، وقد جاءت بهيئة كتاب ضخم بعنوان (جهاد السيد نور السيد عزيز الياسري في ثورة العراق التحريرية 1920 وصناعة الوطنية). وتكمن أهميتها في كونها دراسة نبشت الوثائق السرية للاستخبارات البريطانية وقدمت رؤى منصفة وموضوعية لاحداث تلك الثورة ورمزها وتداعياتها وأبرز الاحداث التي رافقتها أو زامنتها وطبعت آثارها، على التالي من الوقائع، في ظل (الحكم الوطني) والاحتلال الأجنبي. وبدأت جهود الأستاذ عادل الياسري منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي في متابعة الوثائق وتحري الحقيقة من مصادرها الحقيقية، ولاسيما مصادرها السرية.
وقد نشرت جريدة الاتحاد البغدادية في 18 أيلول 1988 خبراً عن عزمه القيام بدراسة عن دور السيد نور الياسري في الاحداث التي مرت على العراق، وربما كان ذلك حافزاً مضافاً اليه للمضي في جهود البحث والتقصي والسفر بين العراق والاردن وبريطانيا لتتبع المصادر وكشف الوثائق ، منطلقاً من مسؤولية علمية واخلاقية فضلاً عن مسؤوليته الوطنية، في وضع النقاط على حروف الثورة وتبيان التضحيات التي بذلها رجالها الحقيقيون والتي طمست أو غيبت لهذا السبب السياسي أو الدافع الطائفي أو الجهل المتعمد.
وتكمن أهمية هذه الدراسة أيضاً ، ليس في كمية الوثائق غير المعروفة التي استند اليها الباحث حسب، بل في رؤيته الثاقبة وتحليله العلمي، فقد نأى بنفسه عن الدراسات الجامعية العراقية منذ بداية الألفية الثالثة التي تجاهلت الوثائق البريطانية الجديدة بصددها، حتى انه انتقد ما وصفه بمحاولات بعض تلك الدراسات، تلميع اسماء الشخصيات الايرانية بعد الاحتلال الامريكي للعراق. وقد وصف تلك الدراسات بـ (القحالة) وعجز التدريسيين عن فهم الوثيقة التاريخية في كتابة التاريخ. كما عد الكتب التي تحدثت عن ثورة العشرين أو دراسة تاريخ العراق خالية من معظم وثائق الثورة.
وثمة أهمية أخرى تكمن في فرادة دراسة الاستاذ عادل الياسري ، مؤداها رؤيته الجديدة للتاريخ المكتوب ويقول (لقد آمنت ايماناً مطلقاً ان كتابة التاريخ الحقيقية له هو الوثيقة السرية)، مؤكداً ان (التاريخ المكتوب لنا بالصور المروية والشهود هو أضعف الايمان بكتابته). فهذه الرؤية او القناعة تطلبت جهداً مضنياً من المؤلف وموضوعية نادرة استمدها من دراسته الاكاديمية أولاً ومن بيئة ترعرع فيها وعرفت بالصدق والاستقامة والعدل الذي يعطي لكل ذي حق حقه .. انها بيئة المضايف المشرعة والكشوفات الايمانية المنتسب اليها السيد نور الياسري ، الذي عرفه الناس رجلاً يتسم بالشجاعة والحكمة والعقل الراجح والاحترام والتعايش ونجدة المظلومين ثم الزهد بالمناصب الحكومية. وكان جديراً ان يكون هذا الكتاب شهادة حية مستخلصة من افادات الاعداء قبل الاصدقاء، بشأن السيد صاحب الكرامات والنجدات . وقد وجدنا في الدراسة التي وقعت بنحو 862 صفحة من القطع الكبير، افكاراً وحقائق جديدة عن ثورة العشرين تنشر للمرة الاولى ، واجابت على سؤال محوري مؤداه (لماذا لم تنتصر الثورة عسكرياً بعد ان توافرت لها فرص السلام والمفاوضات مع ادارة الاحتلال وكان الثوار هم الأقوى في ميزان القوة (التقليدية) وكان البريطانيون مذعنين لهم؟).
وفضلاً عن ذلك فان الدراسة – الكتاب اجابت عن الاسئلة المحيرة بشأن مآل الصورة النمطية للسيد نور الياسري في اذهان بعض المؤرخين ومعظم الباحثين المستجدين . فقد توفرت في شخصه مقومات الزعامة وقوة النضال الوطني والقومي والاسلامي . واذا كان جواب المؤلف ان السيد نور كان (عربياً مسلماً شيعياً)، فان الحقيقة الموضوعية تضيف ان زهده في الحياة تسبب بافتقاره الى فريق مؤازر من الباحثين المنصفين والمؤرخين والاصوات، التي تقوم مقام القائمين بالاتصال في الفقه الاعلامي لدفع اسمه أو وضع صورته في مقدمة رجال الثورة، وبالتالي الحيلولة دون اقصاء جهاده أو تغييبه تحت هذه الحجة او المسوغ او ذاك. وقد اعترف المؤلف في الصفحة 18 انه (وجد الحقائق عن السيد نور السيد عزيز الياسري مكبلة بسلاسل من حديد ، وثمة عتمة الدهر احدها وكان الجهل بين العناوين يطأطئ رأسه والخوف من المجهول يغلفها. والحقائق الضائعة تسير في فلك النسيان والاحقاد ذيلها والواقع العنيد مركبها بلا مراسي).
حقبة بادت
لقد اعانه نسبه العائلي (بوصفه ابن شقيق السيد نور) على كسر الاصفاد واخراج لؤلؤ الحقيقة من كنوز في اعماق بحار العائلة، وهو ما اشار اليه في الاهداء الجميل والاصيل الذي تصدر الكتاب.
وازاء هذه التحديات جاء الكتاب ليسلط الأضواء على الجوانب المعتمة من حقبة بادت، لكنها لم تندثر وتضحيات تلاشت، لكن الانصاف والمثابرة العلمية اعادا جدولتها لتقديم شهادة على وجودها الخالد .
فقد جاء الاستاذ عادل الياسري لينهي هذا الفصل من كتابة التاريخ، برؤية انتظرناها تعتمد الجرأة ولا شيء غيرها ، وتصل الى الغاية بمركب النور والأمل . انه جهاد في معترك العلم ، قرين ذلك الجهاد في سوح الحرية.
وثمة هيكلية مبتكرة ميزت بناء الكتاب وتسلسل موضوعاته، فلم يلجأ الى النظام الاكاديمي التقليدي المؤلف من اقسام ومباحث ومطالب، بل عمد الى بناء فوقي موح بمبدأ الفصول، يقوم على أساس اهمية الحوادث والوقائع وايجاد مشتركات جامعة بينها تقوم على اساس مركزية الشخصية ورمزية جهادها ووحدة الموضوع، بحيث يرى القارئ، بعد اطلاعه على جل العنوانات، الحقائق ماثلة والنتائج واضحة بلا لف او دوران، بدءاً من الحالة الاجتماعية، مروراً بالصراع مع المرجعية الدينية بعد احتلال العراق ودور السيد نور الياسري في تمويل الثورة والدفاع عن حقوق الأسرى اثناءها، وانتهاء، بالفصل الغائب قبل الثورة، ثم الفصل الأخير الذي تضمن قصصاً وروايات وشهادات حية عن الراحل واعماله الخيرية التي لم تمت بوفاته، لكن دون مبالغة او انحياز أو تشدد، فالسيد كان اميناً سديد الرأي ثابت الجنان، بحسب روايات عن جد المؤلف ادلى بها بعد اخماد الثورة.
كما ان السيد نور الياسري كان رحيماً حتى بالحيوان وكريماً جواداً، على وفق شاهدات معيته وأقرب الذين صافحوا يده البيضاء وقلبه النابض بالرحمة، وكان زاهداً ذا ذوق رفيع وشاعراً شعبياً كبيراً، وبصدد رؤاه الاستباقية، فان وصية السيد نور تضمنت تاكيداً على تخـــــصيص اموال لحفر الابار في مدينة النجف للبيوت المشهـــــورة بالاصلاح، وعملياً تم حفر أبار كثيرة بامواله في حـــياته وبعد مماته.
وذلك ما يستشعرنا بنبوءاته ازاء تحديات عالمنا في تغيرات المناخ والبيئة وزحف الجفاف حيث تعاني مصادر المياه الرئيسة في معظم مدن العراق من ظاهرة الجفاف وفقر المياه أو شحتها، ما ضرب التصحر نحو 40 بالمئة من أرض البلاد.
رحم الله هذا الرجل وأبقى مكارمه وسجايا ماثلة في انجاله واحفاده من بعده. كان قامة سامقة وراية، ويداً ممدودة للخير والمحبة.