العراق ومعضلة سوء الجيرة.. رؤية جيوسياسية
زيرفان عبدالمحسن أسعد
برزت ظاهرة جديدة في منطقة الشرق الأوسط مضمونها (العراق ودول الجوار) بعد سقوط الحكم مباشرة لأكبر نظام قمعي وإستبدادي عرفها تاريخ العراق الحديث، وبداً من مؤتمر الرياض المنعقد في نيسان العام (2003)? وانطلاقاً من هذا العنوان لا بد من طرح تساؤلات عديدة، ما هي الأسباب والدوافع وراء ظهور هذه الظاهرة إلى العلن؟ لماذا تعقد مؤتمرات بين الحين والأخر حول العراق ودول الجوار؟ هل هناك دور للعراق فيها؟ من المستفيد الاكبر من عقد هذه المؤتمرات العراق أم دول الجوار أم أطراف أخرى خارج منظومة دول الجوار؟ هل قرارات هذه المؤتمرات تنفذ وتخدم العراق في الواقع أم لا؟. ولذلك وبعيداً عن السياسة فلا بد من طرح سؤال مهم هل لدول الجوار دور ومساهمة لما ألت إليه العراق؟ وهل العراق ينتظر الاحسان وحسن الجيرة من جيرانها؟ هل كان العراق سيشتكي من إساءة دول الجوار له إذا كان قوياً ومستقراً؟ أليس من المفروض أن يكون العراق دولة مستقرة مثل جيرانه؟، لماذا يلاحظ هذا الإستثناء الفريد في حالة العراق مقارنة مع جيرانه؟. وكان من السهل الرد على جميع هذه الأسئلة إذا توفر فرصة يغير وتحويل العراق من مكانه كما يفعله بعض الأفراد عند بيع بيوتها للتخلص من معضلة سوء الجيرة.
نظام الحكم
لقد تبين لدول الجوار عند تغير نظام الحكم في العراق بأن ما يحصلون عليه من العراق قد انتهى وبدأ ناقوس الخطر يدق أبوابهم وأصبح إقتصادياتهم تتأثر بالحالة الجديدة بإنهاء أنابيب النفط المفتوحة بدون مقابل أو بأسعار رمزية لعدد من هذه الدول أو عقود الصفقات التجارية بمبالغ خيالية مقابل مواقف سياسية لا قيمة لها لدعم نظام الحكم لكسر الحصار الاقتصادي وغيره، وبذلك أصبح العراق بمثابة تهديد إقتصادي وسياسي جديد لهم نتيجة بدء العراقيون بخطوات عملية في بناء دولة عصرية حديثة وذلك من خلال إعادة بناء نظمها السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية وغيرها، لذلك فقد تم وضع اللبنات الأولى لبناء دولة المؤسسات على مستوى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحرية الصحافة والديمقراطية والانتخابات، ومن ناحية اخرى; إن دول الجوار العراقي هي دول مستقطبة للإستثمار الأجنبي المباشر بحكم ما أشرته تقارير الاستثمار العالمي التي تصدرها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) من بداية نشرها في التسعينات. لذلك بات لزاماً التفكير جدياً في حال العراق من قبل دول الجوار، وهل يُعد العراق بمثابة تهديد اقتصادي جديد لهم؟ وكيف يمكن أن يُنافِس وينافَس؟ ومن هذه التساؤلات هل يصبح العراق بلداً منافساً إقتصاديا ومالياً وسياسيا جديداً لدول الجوار؟.
كما كان متوقعاً مثل المؤتمرات السابقة التي عقدت في كل من الرياض، دمشق، الكويت، عمان، طهران، القاهرة، جدة، بغداد، شرم الشيخ، إسطنبول .... تحت عناوين مختلفة لدعم الاستقرار السياسي والأمني ومكافحة الفساد والتعايش السلمي، وبمنأى عن السياسة يحتل جانب الاقتصاد والمال والطاقة والاستثمارات الأجنبية والربط الاقتصادي وشبكة الكهرباء وخطوط النقل وغيرها الأسبقية فيها بغض النظر عن الشعارات المرفوعة. إن قمة مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة (مؤتمر دول الجوار العراقي) المنعقد بتاريخ (28) آب (2022) بمشاركة دول الجوار بإستثناء سوريا لم يأتي بشئ جديد بالإضافة إلى فرنسا، مصر، قطر والإمارات وممثلين عن جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي، حيث جاءت مخرجات البيان الختامي للمؤتمر كما تمناه العراق بالحصول على دعم المشاركين لجهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والتعامل المشترك المبني على أساس المصالح المتبادلة وإستمرار دعم العراق في مكافحة الارهاب بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العام (2017). ومع كل هذا الدعم المعنوي للعراق من قبل الدول المشاركة إلا أنه لا يتوقع الكثير منها على أرض الواقع نتيجة الخلافات التاريخية ووجود التوترات العميقة فيما بينهم وخير مثال على ذلك الإعتداءات اليومية المتككرة بالمدفعية والصواريخ والدرونات والسياسات المجحفة في ملف المياه من قبل تركيا وإيران تجاه العراق والتي تجاوزت كل الأعراف والمواثيق الدولية. ومن ناحية أخرى فإن تدفق المال السعودي والكويتي لم يتوقف للأفراد والجماعات الموالية لها في العراق، في حين إعتبر كل من سوريا والأردن بيئة حاضنة لقيادات النظام السابق الحزبية والعسكرية وملاذاً آمناً لكل شخص لا ينسجم أفكاره مع أنظمة الحكم والسياسة في بغداد بعد العام (2003). وبذلك فإن دول الجوار تستخدم نفوذها بكل ما أوتيت من قوة وتأثير على الأفراد والجماعات الموالية لهم في العراق لعرقلة تشكيل الحكومة الجديدة والتي إنبثق منها المظاهرات الشعبية لهذا الطرف أو ذاك وإدخال السياسة أو الدين كذريعة لإنتهاك مؤسسات الدولة التشريعية أو الهيئات المستقلة المالية والاقتصادية والقضائية وغيرها، وكلها تعد تدخلات خارجية غير صحية لدول الجوار في شؤون العراق الداخلية وإنتهاك صارخ للسيادة الوطنية وعدم الإلتزام بمبادئ حسن الجوار مع العراق وكلها تساهم في ضعف قدرة بغداد على صناعة القرار الوطني المستقل.
حيث لا يخفى على أحد بأن العراق ودول الجوار ذو غالبية مسلمة والرسالة المحمدية في الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة أوصى إلى الإحسان إلى الجار ومنها (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ، ....)، وهذه الرسالة المحمدية حذّر أيضا من الإساءة إلى الجار في أحايث اخرى ومنها (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِي جارَهُ ....)، وعند النظر إلى أخر تحديث لإحصاءات سكان العراق ودول الجوار في العام (2022) حسب موقع ووردميتر (Worldometers) (المصدر1) يتبين بأن متوسط عمر الإنسان في العراق هو الأقل بفارق أكثر من خمس سنوات مقارنة مع دول الجوار، كذلك معدل وفيات الاطفال حديثي الولادة أو الذين أعمارهم أقل من خمس سنوات في العراق هو الأقل مع فارق كبير مقارنة مع دول الجوار، والسؤال الذي يتبادر الى الذهن لماذا العراق هو الأسوء مقارنة مع دول الجوار على الرغم من وجود ميزة للعراق عليهم من ناحية وفرة الموارد الطبيعية والثروات وخصوبة الارض وغيرها؟. جدول رقم (ا)
بعيداً عن الخلافات الاقليمية والدولية لحماية المصالح في المنطقة كالصراع الروسي - الأمريكي والصراع العربي - الأسرائيلي وعملية التطبيع والملفات العالقة بين إيران وأمريكا وتمدد التنين الصيني في الشرق الأوسط وأزمة الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي وحرب التحالف العربي على اليمن والنزاعات الداخلية لكل من سوريا ولبنان وليبيا والسودان وآثار وتبعات الحرب الروسية - الأوكرانية من تذبذب سوق العملات وتطاير أسعار الطاقة والمواد الغذائية وغيرها من القضايا الدولية العامة. إلا أن التركيز هنا سيكون على العراق ودول الجوار وكيف أصبح العراق ضحية جيرانه في العقود الاخيرة وخاصة بعد العام (2003) فالصراع الطائفي والمذهبي بين إيران والسعودية على زعامة العالم الاسلامي من جهة والصراع القومي بين تركيا وإيران والعرب من جهة أخرى والتوافق العمياء بين تركيا وإيران وسوريا على القضية الكردية والمنافسة الإقتصادية القوية على السوق العراقية من جهة أخرى، فضلاً عن أحلام التوسع والسيطرة لإحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية والصفوية، كلها عوامل تلمح إلى التدخل السلبي بشكل مباشر لهذه الدول وبقرار مؤسساتها الرسمية بإنتهاك القرى والقصبات الحدودية بالطائرات المسيرة والصواريخ من جانب تركيا وإيران وخاصة في حدود إقليم كردستان أو بشكل غير مباشر عن طريق الدعم اللوجستي للوكلاء والمواليين لهم في العراق من المجاميع المسلحة أو عن طريق شراء الذمم بدفع الأموال للأحزاب والأجنحة السياسية الموالية لهم، أما سوريا فكانت تعد حالة خاصة في الصراع على زعامة حزب البعث الى العام (2003) ومن ثم تدخلها السلبي تجاه العراق حسب تصريحات المسؤولين العراقيين خوفاً من وهم الديمقراطية الأمريكية في العراق والكارثة جاءت بعد العام (2013) بفتح الحدود لداعش والمجاميع الارهابية للمرور الى العراق ودمج الأراضي بين الدولتين بإعلان الدولة الاسلامية، كما أن الأردن لا يختلف كثيراً عن سوريا في إحتواء قيادات النظام السابق الحزبية والعسكرية وغير الموافقين على النظام السياسي الحالي في بغداد، بينما في حالة أخرى الكويت من حيث الخلافات النفطية والحدودية البرية والبحرية ما زالت قائمة على الرغم من أن العراق دفع الجزء الأخير من التعويضات في كانون الاول من العام (2021) إستمراراً لتنفيذ قرار (687) في العام (1991) وبذلك دفع العراق مبلغ (52.4) مليار دولار (المصدر2) كتعويضات خلال ثلاثة عقود من بداية العقوبات الاقتصادية القاسية والحصار الدولي على شعب العراق حسب قرار الأمم المتحدة رقم (661) الصادر في العام (1990) نتيجة الغزو الصدامي للكويت والذي استمر لمدة سبعة أشهر فقط وبذلك دفع العراق مبلغ (7.5) مليار عن كل شهر بقاء إحتلال العراق لها.جدول رقم (2)
وعلى الرغم من جميع الظروف التي يمر بها العراق حالياً إلا أنها جاءت في المرتبة (116) من مجموع (167) دولة على مستوى العالم المعتدل في التقرير السنوي لمؤشر الديمقراطية للعام (2021) حسب ما تم نشره في صحيفة الإيكونومست (The Economist)? بذلك فإن هاجس الخوف لدى دول الجوار من الديمقراطية في العراق لم يأتي من الفراغ لكونها تتقدم على كل من (إيران، السعودية، سوريا، الأردن) ويتأخر بفارق بسيط جداً عن كل من تركيا والكويت ويتصف جميع أنظمة هذه الدولة بالسلطوية ما عدا تركيا التي يتصف نظامها بالديمقراطي المختلط ولذلك إذا كان العراق مستقراً سيكون بمثابة تهديد مباشر على أنظمة الحكم في دول الجوار.
هل من المعقول أن يأتي العراق في المرتبة الثانية بعد أفغانستان في مؤشر الارهاب العالمي وبدون أن يكون لدول الجوار ومؤسساتها اليد الطُّولَى فيما وصل إليه العراق؟، وبالتأكيد العراق ليس جزيرة في المحيط ومحاطاً بالماء فقط بينما في الواقع هو محيطاً بستة دول وبدون أدنى شك فإن لهم دور كبير في التدهور الحالي في العراق. ولهذا ليس من الغريب أن يبقى العراق سنوياً يحتل المراتب المتقدمة من المستويات الخطيرة حسب مؤشر الإرهاب العالمي للعام (2021) التي تصدره منظمة الاقتصاد والسلام (المصدر3) ومن ناحية اخرى فإن عدد الحوادث والقتلى والاصابات والرهائن متقدمة في العراق بلا منازع على جميع دول الجوار ومن ضمنها سوريا. جدول رقم (3)
روافد وانهار
إن دول الجوار تستفيد من العراق من عدة نواح منها:
- الإستيلاء على الموارد الطبيعية العراقية كتغير مسار الروافد والأنهار المائية أو قطعها من إيران وتقليل إطلاقات حصص المياه من تركيا لبناء السدود على نهري الدجلة والفرات والتي سببت بإرتفاع التصحر وإنخفاض المساحات الزراعية ويتوقع أن يصبح العراق أرضاً بلا مياه بعد عقدين من الزمن المصدر4.
- السيطرة على السوق المحلية العراقية وإغرائها بالبضائع لكون حجم الصادرات منها إلى العراق كبير جداً، إذ أن الإحصاءات الرسمية تبين أهمية حجم السوق العراقية لهم وحصة الأسد كان من نصيب تركيا وإيران بما يقارب 20مليار دولار، بينما يتقاسم مبلغ المليارين دولار بين السعودية والكويت والاردن، بذلك جاء أهمية العراق في ترتيبها كثالث شريك حيوي لكل من إيران والأردن وخامس شريك لتركيا وسابع شريك للكويت وبترتيب متأخر للسعودية، وبذلك فإن أي نمو وتنمية أقتصادية في العراق يستفاد منها دول الجوار كل حسب حصة شراكته مع العراق لكون إقتصاد العراق قوي جداً إذ يأتي في المرتبة (53) على مستوى العالم من مجموع (196) دولة من ناحية الناتج المحلي الإجمالي وبمعدل نمو (2.8%) في العام (2021) ويأتي في المرتبة (44) في إجمالي الصادرات وفي المرتبة (51) في إجمالي الواردات وفي المرتبة (106) من مجموع (196) من ناحية نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (المصدر5) مع إمتلاكها إحتياطي للنفط الخام المثبت بمقدار (145) مليار برميل نفط بمعدل تصدير يومي يتجاوز أربعة ملايين برميل نفط (المصدر6). جدول رقم (4)
-إستفادة دول الجوار من العملة الأجنبية المتوفرة عند العراق عن بيعها للنفط بحيث يتم تسريبها عن طريق بيعها في مزاد العملة للبنك المركزي إلى بعض المصارف الأهلية لإدارة إستيراد السلع، وكذلك الأموال المهربة من الفساد المالي والإداري المستشري في العراق (المصدر7)? وفي هذين الحالتين يرى العديد من الاقتصاديين العراقيين بإن العملة الصعبة والأموال المهربة تم تحويلها إلى المصارف في دول الجوار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الإنهيارات المستمرة التي تتعرض لها عملات هذه الدول كتركيا وإيران وسوريا.
- إستخدام دول الجوار حدودها ممراً آمناً لعبور الارهابيين والدواعش إلى العراق وبعلم مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، فضلاً عن ذلك فإن دول الجوار جعل العراق سوقاً رائجا للمواد الاستهلاكية الفاسدة والمهربة والمحرمة والممنوعة دولياً ومنها على سبيل المثال – لا الحصر المخدرات بحيث أصبح عملية إدخال المخدرات من الحبوب ومواد الكريستال والحشيشة والأدوية المهدئة منتشرة بشكل خطير وبذلك تحول العراق من منفذ مرور إلى دولة إدمان لهذه المواد حسب الجهات المعنية العراقية، حيث ذكر وزير الداخلية عثمان الغانمي على برنامج العاشرة مع كريم حمادي في قناة العراقية الإخبارية بأن أكثر من (50%) من الشباب في العراق يتعاطون المخدرات، وبالرجوع إلى هيكل العمر حسب إحصاءات العام (2020) يتبين بأن نسبة (55.42%) من سكان العراق هي من الفئة العمرية (15-54) سنوات (المصدر8)? وبذلك يكون عدد المتعاطين للمخدرات في العراق حسب تصريحات الوزير على الأقل هو (22) مليون عراقي وذلك لكون ثمانية مليون عراقي من الفئة العمرية (14-24) سنوات مع أربعة عشر مليون عراقي من لفئة العمرية (25-54) سنوات. حيث لا يخفى على أحد بعدم قدرة العراق على ضبط حدودها بعد العام (2003) نتيجة الظروف الإستثنائية التي مرت بها، أليس من المفروض على دول الجوار أن تضبط حدودها لكونها دول مستقرة سياسياً وأمنياً؟ ونؤكد بأننا لا نحمل دول الجوار فقط كامل المسؤولية لكون ضعف دور المؤسسات الرقابية والتشريعات القانونية وإهمال الأجهزة الأمنية والفساد والبطالة والفقر في العراق كلها عوامل أدت إلى عدم القدرة على مكافحة المخدرات وخاصة عند فئة الشباب. جدول رقم (5)
في الختام يمكن القول بصراحة لا يمكن وضع اللوم على دول الجوار فقط أو غيرها من الدول ويتصور البعض بإن جميع مشاكل العراق هي مستوردة ومصطنعة من قبل دول الجوار أو الخارج فقط في حين أن بيئة العراق وبنيتها الفكرية والإجتماعية والسياسية أفرزت الكثير من الولاءات والإنتماءات الضيقة ومنها الطائفية، الدينية، العرقية، القومية، الحزبية، المناطقية، القبلية، العشائرية، العائلية والفردية التي هيمنت على مفاصل الدولة وقراراتها السيادية والتي جعلت العراق حاضنة وأرض خصبة تجذب جميع الأجندات التي لا تريد الخير للعراق وللعراقيين، وبذلك فإن العراق ليس ببعيد لما ألت إليه الحال وكما قال الشاعر (نعيب الزمان والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا)، ومع ذلك ظهر الى العلن ظاهرة العراق ودول الجوار بعد العام (2003) وبقلوب موجعة فإن الرأي السائد في العراق هو إساءة دول الجوار لهم مع عدم وجود رؤية لأي بوادر إحسان منهم تجاه العراق في المستقبل.
من السهولة الإستنتاج بأن دول الجوار سوف تستمر في عدم إتباع سياسة حسن الجيرة ولن يغير من سلوكها العدائي تجاه العراق وإن عقد عشرات المؤتمرات الجديدة في السنين القادمة، إذ أن هناك شبه قناعة لدى الشارع العراقي والطبقة المثقفة من الأكاديمين والباحثين بعدم الجدوى من هذه المؤتمرات بعكس السياسين والقيادات الحزبية والمسؤولين في الحكومة العراقية، ويرجع ذلك لكون مقررات مؤتمر بغداد الأخير لا يختلف كثيراً عن مقررات وتوصيات المؤتمرات السابقة لدول الجوار العراقي التي دعت إلى إحترام السيادة وعدم التدخل وتحقيق الإستقرار السياسي والأمني ومكافحة الإرهاب وإرجاع العراق إلى الأسرة الدولية إلا أن الواقع أثبتت بإنها دعوات بقيت حبر على ورق في جميع المؤتمرات السابقة بعد العام (2003) سواء على مستوى الرؤساء أو الوزراء الخارجية والداخلية أو البرلمانيين.
دولة رائدة
وتبقى وضوح الرؤية العراقية ثابتاً والتي تشير إلى أن إستقرار العراق سياسياً وأمنياً ستجعلها دولة رائدة في المنطقة وستحقق مستويات عالية من الرفاهية ومستوى معيشي أفضل بزيادة متوسط دخل الفرد وتوفير فرص عمل أكثر ونسب أقل للبطالة والفقر مع تحقيق الإكتفاء الذاتي وضمان الأمن الغذائي وكلها يرجع إلى ما تمتلكه العراق من الإرث الحضاري والتاريخي وميزة وفرة الموارد الطبيعية والبشرية مع موقعها الإستراتيجي والتي يجعلها دولة قوية من الناحية الاقتصادية والتجارية والسياحية والزراعية والعسكرية وغيرها، وهذه العوامل كلها تجعل بيئة العراق حالة فريدة لتتقدم بدون منازع على جميع دول الجوار ومنطقة الشرق الاسط.
ولرجوع العراق إلى دورها الريادي أقترح بتشكيل هيئة أو مؤسسة عراقية مستقلة تكون مهتمة بدول الجوار ولها وظيفتين أساسيتن:
الوظيفة الأولى: التوثيق من خلال رصد ومتابعة السياسات والممارسات السلبية والعدائية تجاه العراق من ناحية إنتهاك السيادة والحدود البرية والبحرية والجوية أو التجاوز على حرمة وحقوق المواطن العراقي داخل هذه الدول، التجاوز على حصص العراق من المياه أو أي سلوك أخر ينتهك حقوق العراق حسب القوانين والأعراف الدولية.
الوظيفة الثانية: وضع وتطبيق سياسات وإستراتيجيات عراقية جديدة للحد من تجاوزات وإنتهاكات هذه الدول بإستخدام كل الوسائل الممكنة ومنها الدبلوماسية والقانونية والأقتصادية على أقل تقدير، والواقع سيثبت أن تبقى دور هذه الهيئة الجديدة تقتصر على التوثيق فقط لعدم جدية الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام (2003) في التعاطي مع ملف إساءة الجيران لها ونتفاءل خيراً بإن يتخذ الأجيال القادمة بعض الإجراءات بالأعتماد على ما تم توثيقه حالياً.
وفي السياق إن الجدية في العمل من قبل العراقيين شعباً وحكومةً سوف يكون بمثابة الدرع الواقي أمام أطماع دول الجوار، ولا بد أن يبدأ هذا العمل من إعادة الأعمار وإرجاع النازحين والمهجرين إلى مناطقهم والقضاء على الفساد وإنهاء الإنسداد السياسي وتعزيز ثقافة العمل المشترك وترسيخ مفهوم المواطنة وخلق فرص العمل للعاطلين والتي نسبتها تجاوزت الملايين وعدم قدرة الدولة العراقية على إحتواءها، لذلك لا بد أن يكون للقطاع الخاص المحلي والأستثمارات الأجنبية دور كبير من خلال دمج التكنولوجيا والخبرات والأموال الأجنبية مع العراقية لتحقيق عملية تنمية إقتصادية شاملة لتقليل الفقر والبطالة والحد من السيطرة الاقتصادية لدول الجوار على العراق.
وبخلاف ذلك فسيكون من الصعب تجنب الخيار الأشد تشائماً لما قد يحصل في العراق من تكرار سيناريو إحتلال أمريكا لأفغانستان في (2001) وتركها فجأة بعد عقدين من الزمن في آب (2021) ومن ثم رجوع من كان يحكمها سابقاً (حركة طالبان)، وهذا قد يرجع إلى التشابه الكبير مع حالة إحتلال أمريكا للعراق في آذار (2003) وهل سيتركها فجأة بعد عقدين من الزمن أي في العام (2023) ويستلم من كان يحكمها سابقاً (حزب البعث) الموجودين في دول الجوار العراقي؟ وإن جاءت حتى تحت مسميات أخرى، ولا سيما كون الوضع العام الحالي للعراق يتشابه كثيراً لأفغانستان قبل إنسحاب التحالف الدولي منها من ناحية الفساد والمحسوبية والفضاءيين في الجيش وشراء المناصب والكسب غير المشروع وتفضيل المصلحة الفردية والفئوية على المصلحة العامة للبلد.