الكوت .. حرائق الروح الجسد
نعيم عبد مهلهل
شخصيا أرتبط بالكوت بمشاعر غامضة واحسها محافظة منعزلة عن بقية المحافظات ، لكنني عرفتها لاحقا من خلال محطات حياتية بدأت بجبهات الحرب وانتهت بمنتديات الادب والثقافة . وكانت مدينة بدرة التابعة اداريا الى كوت هي اول مكان نقلت اليه كعريف مخابرة في كتيبة مدفعية ، ومتى اتت الاجازات علي أن اذهب من كراج بدرة الى كراج الكوت ، ومن ثم الى مدينتي الناصرية .وكان خط السيارات ضعيفا بين المدينتين فنضطر ان نركب الى مدينة الحي ، ومن الحي الى قلعة سكر ، ومنها الى الناصرية .وكل مشاعري صوبها هي مدينة هادئة اشاهد في مرات سدتها التاريخية الواقعة على دجلة حين اتجول على الكورنيش في بعض المأموريات اليومية التي يتم تكليفها بها لجلب قرطاسية أو شحن بطاريات جهاز الراكال او البي ار سي و105 الروسي وهو ما كانت تسسخدمه كتائب المدفعية . والغريب حتى الجنود من ابناء هذه المدينة كانوا قليلين في وحدتنا ، فجنود بطريتنا مثلا اغلبهم كانوا : بصرة ، ناصرية ، ديوانية « ومن الكوت جنديا واحدا اسمه سعد ، هرب من الجيش لاحقا ولم يعد نادماص في أي عفو .لاحقا عرفت الكوت من خلال ادبائها ومثقفيها واصبحوا مقربين جدا وأول من عرفته هو الراحل الشاعر غني العمار ثم الصديق المترجم والطيب علي عبد الامير صالح وآخرين . ثم شعرت أن المدينة تحررت من عزلتها بالنسبة لي وتكررت اليها زياراتي وكانت موطنا لاحداث رواييتين من رواياتي هما « حارس المقبرة الإنكليزية « و « صفحة الحلاج في الفيس بوك « .
وهكذا هي الكوت يتذكرها الناس في الناصرية كونها منتصف الطريق بين الناصرية وبغداد وطريقها بممر واحد ، وطالما كانت مسرحا حزينا لحوادث السيارات ويسمون طريق ناصرية ــ كوت بطريق الموت وأ عز صديق لدي كان من ضحايا هذا الطريق .
مفارقة موت
قفزت الكوت فجاة الى واجهت ذاكرتي في حادثة ألم تفوقت على كل حوادث تصادم السيارات عندما شبت النيران في سوق للتبضع اتت العولمة بعنوانه الغريب المسمى « هاربير ماركت « في مفارقة موت عجيبة ابتدأت بحادثة اشتعال نار بسيطة في مطعم ، وكان يمكنك ان ترمي عليها بطانية وتنطفيء او ترش عليها مسحوق طفاية واحدة من وزن 5 كيلو وينتهي الأمر .لكن التهاون وبلادة التصرف اخذت النار من الطعم الى طوابق المول ،الذي لم يكن مولا بالمعنى التجاري الفخم بل كان مطعما حمل اسم « زرزور « وحولوه الى مول ، وهذا « الزرزور « طار بأرواح قرابة مئة من البشر ، وازهق ارواح عوائل كاملة ومسحها من سجلات النفوس .
فرن احترق فيه المهندس والطبيب والكادح وصاحب الحانوت والجندي المطوع والمتقاعد واطفال لم تمض على عطلة مدارسهم سوى شهر واحد ومهن شتى لأناس بعض امنيتهم الهروب من جحيم الصيف وانقطاع الكهرباء ودخان المولدات الى سوق للنزهة والتبضع وفيه تبريد .ولم يكن يعلموا ان هذا المول اول ما كان يفتقده هو مواصفات السلامة وابواب وسلالم الانقاذ والنجاة ومواد اطفاء الحريق .وان الحكومة المحلية لم تتحسب لهكذا طوارئ كارثية وتدعم دائرة الدفاع المدني بالكوادر المتخصصة والآليات ،وقيل في وصف درامي للنيران التي لم تحرق بناية تجارية بل كانت تحرق في القلب الكوت ، واصبحت المحرقة نشيدا للحزن العراقي في زمن التهاون والرشوة والفساد الذي تبنى فيه بناية من خمسة طوابق تفقد الى الكثير من الموافقات الرسمية والمتابعة لمراحل بناء هكذا مرفق بني في منطقة سكنية . وانا تجولت اوربا كلها فلم اجد سوقا تجارية بجانب منزل ، بل تبنى الماركتات والاسواق التجارية في الفضاءات الواسعة وكل طرق الامان والسلامة متوفر فيها وطوال سنوات العيش بمدينة المانية كبيرة لم اسمع او اشاهد حريقا في مول تجاري .
مانشات عريضة
وهكذا عاشت الكوت واحدا من اسوء ايامها في ليلة اتحد فيها جحيم.
الصيف مع جحيم النيران وسوء التصرف والتعامل مع الحادث الذي أبندأ بسيطا لينتهي فرنا هائلا من النار ...
شيء من عاطفة حزينة لبلاد من بعض اصناف مراثيها هي الحرائق .حرائق الروح والجسد .حرائق قتل البراءة برصاصة الاهمال واحدى المانشات العريضة في حزن الكتابة لفت انتباهي عبارة تقول: انكم تحرقون من لم يفكر انه سيموت محترقا .بل كان يفكر انه يشتري بدلة ودمية لطفلته او عاشقا يشتري عطرا لحبيبته او سيدة منزل اشترت مقلاة لمطبخها .لكن السوق التجاري هو من تحول الى مطبخ وطبخَ معه الاحلام وأمال الحياة ..فيما المسؤول خرج في التلفاز بكامل اناقته ويبرر ويرمي الاخطاء على غيره وغيره يرمي الاخطاء عليه فيما نعوش الضحايا تذهب الى مقابر الدموع وهي تعرف انها احترقت بحادثة درامية لامعنى لها .
الكوت حرائق الروح والجسد ،وسأنتظر من مبدعيها التناغم مع حزن الكارثة وهم يعيشون وقائع يومياتها التي ستتحول الى مجاميع ققصية وروايات وربما احدهم سيكتب مسرحية تعيد الى الذاكرة فصلا من تاريخ حزين لهذه المدينة التي غفت على دجلة كل ازمنتها منذ ان وضع الحجاج لواسط كيانها الحضاري واسس لديمومتها ، وعلى رمل النعمانية سال دم الشاعر ابو الطيب المتنبي مغدورا بسيف فاتك.
سيكتبون لأنها مدينتهم وحزنهم حزنها ..هذه الكتابة اتمناها خالية من عاطفة الحماس وتنظر الى المأساة من جوانبها الاجتماعية والواقعية والروحية وليرموا امام وجهها مقاصد السياسة ويتحدثوا عن اهمال ولصوصية وترف على حساب سلامة الناس .
تلك هي المدينة .لم يحرقها سوى قدرها ونيرون المختبيء خلف الكواليس حزينة ودامعة وكئيبة .لان الروح تولت فيها الى هاجسس من نحيب تفحم دون أن يتقدم صوبها من ينقضها ويخلصها من حفلة الشواء هذه ...