الحوكمة ومواجهة الإنحراف التشريعي
احمد طلال عبد الحميد البدري
تلعب الحَوْكَمَة التشريعية دوراً مهماً في الحد من ظاهرة الانحراف التشريعي اذ يعد الانحراف التشريعي من أخطر العيوب التي تصيب التشريع فهو عيب خفي ومستتر لأن التشريع يكون في ظاهره الصحة وفي باطنه البطلان، وهو عيب احتياطي لانه يتعلق بغاية مُصدر القانون وفكرة الانحراف التشريعي مستمدة من فكرة الانحراف بالسلطة الذي استخدمه الفقيه الفرنسي (Aucoc) أول مرة للتعبير عن استعمال رجل الادارة السلطة التقديرية لاتخاذ قرار في حدود اختصاصه لتحـــقيق غاية اخرى غير تلــــك التي منح من اجــلها الســــلطة، ثم استخدم الفقــــيه Barthemly)) مصطلح الانحراف التشريعي عندما صدر تشريع عام 1907 يتضمن عقوبة مقنعة لمجندي فرقة المشاة 17 وان كان التشريع في ظاهره يتصف بالعمومية والتجريد، ذلك ان الحَوْكَمَة التشريعية تستهدف الوصول إلى التشريع الجيد ومن خصائص التشريع الجيد العمومية والتجريد في الصياغة، فالقاعدة القانونية تصاغ وتوجه إلى الاشخاص والوقائع بصفة عامة فلا توجه إلى شخص معين بذاته ولا إلى واقعة معينة، وبذلك تكون قابلة للتطبيق في حال توافر في الشخص أو الواقعة صفات أو شروط معينة، بمعنى آخر أن القاعدة القانونية تطبق على كل شخص توفرت فيه أوصاف معينة وعلى كل واقعة توفرت فيها شروط انطباق القاعدة ، وبالتالي فلو اصدر المشرع (البرلمان) تشريعاً عاماً مجرداً وهو يعلم أنه لن يطبق في الواقع الاّ على حالة فردية واحــــدة.
ارادة البرلمان
ففي مثل هذه الحالة اتجهت ارادة البرلمان لاصدار تشريع عام مجرد لا ينطبق الا على حالة فردية واحدة ولا ينطبق على حالات يمكن أن تستجد في المستقبل رغم تماثل وضعها القانوني وفي مثل هذه الحالة يكون البرلمان قد انحرف في استعمال سلطته التشريعية كما لو أصدر البرلمان تشريعاً في مناسبة قضية منظورة أمام المحاكم وهذا التشريع لا ينطبق الاّ على هذه الحالة كان هذا التشريع في حقيقته قراراً ادراياً فردياً اصدره البرلمان في صوره تشريع عام مما يجعله مشوباً بالانحراف في استعمال السلطة التشريعية، كذلك الحال اذا خالف التشريع الغرض المخصص له الى غايات اخرى، وكذلك اذا ترتب على اصدار التشريع الحد او الانتقاص من الحقوق والحريات العامة تحت ستار التنظيم، أو المساس بالحقوق المكتسبة ، كما لو صدر تشريع إداري يتضمن فرض عقوبات انضباطية على الموظفين بأثر رجعي، أو صدور تشريع إداري من شأنه استرجاع مبالغ أو مخصصات أو اجور بأثر رجعي أو صدور تشريع معدل لاحدى تشريعات الوظيفة العامة من شأنه أن يمس مراكز قانونية ومالية للموظف بأثر رجعي، فالاصل عدم رجعية القوانين على الماضي ويجوز النص على الاثر الرجعي على سبيل الاستثناء وبالقدر الذي تدعو إليه الضرورة، اذ ان الاسراف في النص على الاثر الرجعي في القانون يعد انحرافاً في استعمال السلطة التشريعية ، وبالتالي فأن أعمال الحَوْكَمَة التشريعية يؤدي إلى ضبط آليات التشريع داخل البرلمان والحيلولة دون اصدار تشريعات ذات طابع شخصي لا تتسم بالعمومية والتجريد أو تخالف الغرض من التشريع لاغراض اخرى او المساس بالحقوق المكتسبة او الانتقاص من الحقوق والحريات العامة او مخالفة روح الدستور، وبذلك تتجنب الغاء التشريع لعدم دستوريته نتيجة لتدخل القضاء في معرض رقابته على دستورية القوانين، وهذا الحديث ينسحب على آليات وضوابط وضع التشريعات الدستورية وآليات تعديلها حتى لا يقع المشرع الدستوري في حومة الانحرافات الدستورية.
حوكمة تشريعية
خلاصة ما تقدم ان الحَوْكَمَة التشريعية تعمل على ضبط آليات التكنيك التشريعي وتحقيق الدقة التي من شأنها استبعاد كل أمكانية للتحكم وتغطي الضمانات للأفراد لأن المشرع يعمل على تحويل اهداف معينة ذات حدود غير واضحة إلى أوامر قاطعة ذات حدود ثابتة تماماً، إذ تعمل عمومية القانون على بقاء القانون بعد تطبيقه، فهو لا يزول بعد تطبيقه على حالة معينة أو متوقعة أو محددة مسبقاً، فعمومية القانون أو القاعدة القانونية تعني أن القانون لم يشرع من أجل شخص أو أكثر بل أنه شرع ليطبق ويحكم كل الأفراد الذين يوجدون في الظروف التي حددها القانون وينطبق على الحالات المشابهة في المستقبل، ومن عمومية القاعدة القانونية نستخلص صفة اخرى وهي : أن القاعدة القانونية مجردة، وان التجريد نتيجة للعمومية وهي تعني ايجاد حالة مجردة مستخلصة من ظروفها الواقعية الملموسة وفي صفة التجريد موضع للقوة وموضع للضعف، أما موضع القوة فيكمن في الحصول على قاعدة قانونية مستخلصة من الواقع وتطبق بلا تمييز وهذا ضمان ضد تحكم المشرع ومطبق القانون، أما موضع الضعف فيكمن في فقدان القاعدة القانونية مرونتها ولا يمكن لها أن تستوعب الواقع بكل تفاصيله ، فإذا صدر تشريع لا يؤدي لتحقيق هذه النتيجة يكون مشوباً بشبهة الانحراف في استعمال السلطة التشريعية حتى لو كان التشريع صحيحاً في ظاهره.