الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المظلة التشريعية للعدول القضائي في قرارات المحكمة الاتحادية

بواسطة azzaman

المظلة التشريعية للعدول القضائي في قرارات المحكمة الاتحادية

وائل منذر البياتي

 

تمتع احكام القضاء الدستوري بالحجية المطلقة على كافة السلطات يقتضي عدم وجود امكانية لاثارة موضوع دستورية النص امامها أكثر من مرة اذا ما قررت دستوريته، لكن نجد ان القضاء المقارن ذهب في حالات معينة الى اقرار مبدأ قضائي مقتضاه امكانية عدول المحكمة عن قراراتها السابقة في حالات معينة، واساس هذا التحول هو حصول تغيير في اوضاع المجتمع واعتناقه افكار جديدة مما يؤدي الى دفع المحكمة للتحول عن توجهاتها السابقة على ضوء هذه التغييرات.

فالمحكمة الدستورية الالمانية مثلاً استندت في عدولها الى الظروف التي تتطلب تقديراً جديداً، فيما ذهبت المحكمة النمساوية الى ان العدول مرتبط بتبنيها افكاراً او قيماً جديدةً معبرة عنها في الدستور ضمناً، اما في  ايطاليا فان التطورات التي تلحق المبادئ الاساسية للنظام القانوني كانت تقف وراء تغيير اتجاهات المحكمة هناك .

       ينبغي ملاحظة ان العدول يشمل الدعوى الدستورية وتفسير أحكام الدستور وفقاً لأطلاق نص المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا ، كما انه لا يتصور قيام المحكمة بالعدول عن قرار لها يقتضي عدم دستورية نص او قانون معين بان تقضي باعتباره دستورياً مرة اخرى وذلك لان القانون في حالة الحكم بعدم دستوريته سيفقد القوة القانونية لوجوده ولا يمكن للسلطات بعد ذلك تطبيقه لالزامية احكام المحكمة للسلطات دون استثناء، وعليه لا يمكن تصور حصول مثل هكذا عدول خصوصاً في حالة تشريع قانون يلغي النص غير الدستوري ويحل محله .

      واذا كانت بعض الآراء الفقهية تذهب الى ان ثبات المحكمة على قراراتها هو اسلم منطقاً مع طبيعة الحجية التي تتمتع بها قراراتها، ويضمن ايضاً استقرار المعاملات والمراكز القانونية ويرسخ هيبة المحكمة واحترامها من قبل الجمهور خلافاً للعدول، ففي المقابل ان القضاء من الناحية العملية لا يمكن له ان يبقى على منهج واحد متى ما تغيرت الظروف التي تحكم الواقعة كحصول تعديل في نصوص الدستور تخالف ما سبق اصداره من المحكمة، هنا لابد لها من العدول لتتوافق قراراتها مع النصوص الجديدة، كما ان المحاكم تعدل عن توجهاتها السابقة في احوال تغيير اعضاءها، وما يترتب على اختلاف توجهاتهم ورؤيتهم للوثيقة الدستورية، من تأثير في القرارات اللاحقة، وهذا ما شاهدناه في الولايات المتحدة الامريكية في قضية الحق في الاجهاض المعروفة باسم (Dobbs v. Jackson Women's Health Organization)? حيث عدلت المحكمة العليا عن قرار سابق لها صدر عام 1973 في  قضية (Roe v. Wade) كرست فيه حق المرأة في الإجهاض، والذي ايده قرار لاحق في قضية (Planned Parenthood v. Casey) الصادر عام 1992? وهذا التحول في قرار المحكمة من اعتبار الاجهاض حق للمرأة في الاسابيع الأولى إلى تقييده لاعتبارات عدة، سبقته ايضاً قرارات سابقة قضت بتحولها عن منهجها خصوصاً في الفترة بين عامي 1937-1946? فترة النزاع الذي حصل بين المحكمة من جانب والرئيس فرانكلين روزفلت من جانب آخر.

اكتشاف المحكمة

 قد يحصل العدول في احوال اكتشاف المحكمة للخطأ الذي وقعت به عند اقرار توجه او تفسير معين لأي سبب من الاسباب هنا يكون تراجع المحكمة عن توجهها الخاطئ، هو عملية تصحيح للمسار وأمر يبعث على الثقة باعتبارها لم تصر على توجه غير صحيح، ولم تسعى لإعطاء تبريرات او اعذار لا اساس لها او لا علاقة لها بالموضوع، وانما عمدت الى العدول بحكم جديد على أسس سليمة .        يبقى السؤال المهم في هذا السياق هل ان المحكمة الاتحادية العليا جعلت العدول مطلقاً، ام وضعت ضوابط ومحددات، ينبغي عليها ان تتقيد بها في حال توجهها نحو التحول عن قرار معين او توجه سبق لها اقراره كمبدأ او كتفسير للنصوص الدستورية، وهذا يتطلب العودة الى المادة (45) من النظام الداخلي رقم (1) لسنة 2022.

       حيث ان المحكمة اعتبرت العدول من قبيل  الاستثناء على الاصل في العمل القضائي الدستوري، لذلك أجازت لنفسها في حالة الضرورة القائمة على مقتضى احدى  المصلحتين الدستورية والعامة، أن تتحول عن توجهاتها السابقة الى توجه جديد، وإن كانت الضرورة هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعاً، وبتعبير آخر هي عبارة عن الاحتياج الى الشيء واضطراره بمعنى ألجأه اليه وليس منه بُــد ، اي اننا امام حالة من عدم وجود خيار لدى المحكمة سوى التراجع عن مبدأ سبق لها ان اقرته ، اما المصلحة الدستورية او العامة فإننا نحتاج لكي نتعرف على أبعادها ومعانيها العمل على البحث في ضمير المؤسس الدستوري لإمكان الوصول وتقدير ما نص عليه لتحقيق المصلحة العامة او المدلولات التي يمكن استنباطها في ضوء فلسفة النص الموضوع، أو ترك المسألة لضمير القضاة حين يقضون بوجود مصلحة دستورية او عامة في مبدأ معين، وفي كلا الحالتين لا يمكن تحجيم او تحديد المصلحة التي يمكن تصورها قبل صدور قرارات من المحكمة تقوم على هذا الاساس .

     فالأسئلة التي ستجيب عنها القرارات القادمة للمحكمة هي تعريفها للمصلحتين الدستورية والعامة، وهل هي مرتبطة بالثوابت او الأفكار الأساسية للدستور، ام أنها مصداق للمحافظة على الوظيفة التي وجدت لأجلها الوثيقة الدستورية، من تنظيم للسلطات والعلاقة بينها، وما أقرته البنود الأساسية من حقوق وحريات للأفراد، ام انها ترتبط بفكرة سلامة الشعب، اذا نظرنا الى العمومية كمصلحة ستتوكأ عليها المحكمة في اتخاذ توجهٍ جديدٍ تهدف من خلاله مراعاة المصلحة العامة .

مجالات الرفض

       واذا كان الرافضون للعدول كثيراً ما تحدثوا عن الخوف من الاخلال بمبدأ حجية احكام المحكمة الاتحادية العليا المطلقة، في حالات التفسير او الاحكام التي تصدرها بعدم دستورية نص، او توافقه مع الدستور، عدا حالات الرفض الشكلي للدعوى حيث ان الحجية المطلقة تقتضي عدم جواز عرض الموضوع مرة اخرى على المحكمة، بالإضافة الى الأثر الذي يرتبه العدول على تهديد استقرار المعاملات ، بما يجعل المراكز القانونية غير مستقرة وهذا ما ينعكس سلباً على الأمن القانوني، مما يقتضي أن يكون هناك مبرراً مقبولاً ذا مشروعية، لا يمس بأي شكل من الأشكال الحريات الاساسية للأخذ به، ورغم ايماننا بان العدول ليس على وجه واحد، فهو غير جائز، متى ما كانت النصوص الدستورية من حيث الوضوح والدلالة قطعية فيما نذهب اليه من ابعاد ومفاهيم، وبالتالي لا يمكن ان يتصور العدول هنا، كوننا سنكون امام حالة يتم فيها طرح الالفاظ ومعانيها ومفاهيمها جانباً، لأجل اقرار مفهوم جديد، كما أن العدول جائز في احوال تغير الظروف وتطور المجتمع لدرجة يكون فيها النص المدون عاجزاً عن ايجاد حلول لمتطلبات استمرار الحياة داخل الدولة، فهنا يمكن للقضاء الاجتهاد دون قيد الالتزام بما سبق اقراره من مبادئ، ذلك ان الاجتهاد القضائي حاجة ضرورية حتى في البلدان التي تأخذ بنظام السوابق القضائية، وكما يتوجب على القاضي العدول، في حال اذا ما اكتشف الخطأ في قرار سابق، وما تحوله هنا الا تصحيحاً للمسار، وانطباقاً أكثر مع نصوص الدستور وروحها، وحسناً فعلت المحكمة الاتحادية العليا عندما وضعت ضوابط تحول دون امتداد أثر العدول الى الاخلال بالمراكز القانونية او الحقوق المكتسبة، إذ اعتبرت عدولها غير مساس بما سبق اقراره، معنى آخر لن يكون لعدولها أثر رجعي باي حال من الأحوال، وبالتالي هذا يعني عدم تعارض التحول بقرارات المحكمة مع فكرة الامن القانوني، خصوصاً وانها قد قيدته اساساً بحالات الضرورة اي اننا سنكون امام عدول في اضيق الحدود، لضمان نوع من الاستقرار القانوني، وبالتالي سيكون هناك تسبيباً واضحاً وصريحاً، تبين من خلاله المحكمة مقتضيات المصلحة الدستورية او المصلحة العامة، التي دفعت قضاتها للعدول عما سبق لهم اقراره بما يبعث الطمأنينة والثقة في نفوس متلقي القرار .

{ استاذ القانون الدستوري المساعد


مشاهدات 782
أضيف 2022/09/03 - 2:22 PM
آخر تحديث 2024/11/21 - 5:26 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 315 الشهر 9786 الكلي 10052930
الوقت الآن
السبت 2024/11/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير