مزامير ضيعت فردوسها .. شعرية المغامرة وجمالية البحث عن هوية
خليل شكري هياس
الشعرُ هذا المكنونُ العميقُ حد الغموض، النابض بالجمال شكلاً وتشكيلاً، حساً ودلالةً وإيماءً وإيحاءً وتلميحاً وترميزاً ومخاتلةً ومناورةً وتصريحاً وإدراكا وتنويراً وكشفاً وإثارة وتمنعاً وإلهاماً ونشوةً ومتعةً وتخيلاً وتخييلاً وتصويراً وتصوراً وشلالاً متدفقاً من المشاعر، يغريك دائماً أن تخوضه بروح مغامرة تتشبث بخيط أملٍ وإن كان ضعيفاً–أحيانا- أنه سيأتي بجواهر ولآلئ لم تصلها يد غواصٍ/ةٍ ماهرٍ/ةٍ بعد.
بهذه الروحية المغامرة تحاول ميديا شيخة ولوج مجموعتها الشعرية الجديدة (مزامير ضيعت فردوسها) عندما تختار هذه المرة منطقة شعرية جديدة لم تدخلها بعد على الرغم من معرفتها المسبقة بصعوبة الركوب في هذا المركب الدخيل على الساحة الشعرية العربية، والموقف النقدي المتأرجح بين القبول به أو رفضه، عُرِفَ هذا الأمر بقصيدة الهايكو المنتمية أصلاً وشكلاً إلى الثقافة والأدب الياباني.
إثبات وجود
هذا الأمر يشكل بحد ذاته إشكالية معادلية بين الذات الشاعرة وهي تحاول إثبات الوجود داخل نصها الجديد، وبين الذات القارئة الضمنية أو الصريحة – الناقدة أو الهاوية- الراصدة لهذا الوجود والباحثة عن جماليات هذا الوافد الجديد الذي يحاول أن يجد له مكاناً في الساحة الشعرية العربية بكل إرثها وعمقها وتنوعها والتي لا تعطي مكانًا إلا لمن يستطيع فعلًا أن يثبت له موطئ قدم فيها كما حصل سابقًا مع كل أنواع التجديد في القصيدة العربية، ومن ثم التنويع بدءًا بقصيدة الوزن مروراً بقصيدة التفعيلة وصولاً إلى قصيدة النثر، فضلاً عن تنويعات أخرى على صعيد التداخل الأجناسي بين الشعر ومختلف الأجناس الأدبية والفنون السمعية والبصرية، فظهرت لنا القصيدة السردية والتشكيلية والفلمية والسيرية وغيرها، على نحو وسَّعَ من أفاق الشعر لتخلق معها فضاء رحباً لا تؤمن بالأسوار المغلقة أو السجن أو التقوقع داخل فن أو جنس محدد.
إن هذا المنحى الجديد في الشعر العربي بركوب قارب قصيدة الهايكو يجعلنا أمام تحدٍ جديد على الصعيدين الإبداعي والنقدي معاً، يفرز معه تساؤلات وتساؤلات، ما الجديد الذي تحويه هذه القصيدة لنضيفه إلى إرثنا الشعري الثر؟ وما الفارق بينها وبين القصيدة العربية القصيرة جداً بمختلف مسمياتها ( القصيرة جدا، المركزة، التوقيعة، الضربة، الدفقة، الومضة، اللمحة، المفارقة، النفس الواحد، الصورة، الفكرة، الخاطرة، البرقية وغيرها) كما يذكرها الناقد فيصل القصيري في كتابه بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة؟ والذي يشير إلى مشتركها الرئيس في أنها تمتاز بالقصر الشديد، وبغض النظر عن الدخول في الفارق الاصطلاحي بين قصيدة وقصيدة من هذه الأنواع. ومن التساؤلات المهمة الأخرى مدى استجابة هذا النوع الشعري لتجربة الشاعر العربي الذي يختلف حتماً عن تجربة الشاعر الياباني بيئة وفكراً وحضارة وثقافة ورؤية، ومدى قدرتها على استيعاب الذات الشاعرة العربية؟ هذه الأسئلة وغيرها لسنا بصدد الوقوف عندها الآن ونحن نتابع هذه المجموعة آملين أن تسنح لنا فرصة في نقاشها في بحث مستقل عن قصيدة الهايكو العربية، وما يهمنا طرحه الآن هو شعرية وشاعرية ميديا شيخة في خوضها غمار هذه المغامرة الصعبة التي من شأنها منح الشاعرة هوية إبداعية جديدة تجعلها أكثر قوة ورسوخاً في الساحة الشعرية العربية، فكثيرة هي الأسماء الشعرية بكل أرثها الشعري، لكن الراسخة منها قليلة قياساً بهذا الكم الكبير من الأسماء المطروحة في العالم الورقي أو الإلكتروني بعد أن فعلت قنوات التواصل الاجتماعي فعلها على نحو مخيف ومهدد بسحب البساط من تحت عالم الكتابة الورقية.
على صعيد شعرية النص في هذه التجربة الشعرية الجديدة للشاعرة ميديا شيخة نحسب أنها أستطاعت مجاراة قصيدة الهايكو ليس بثوبها الياباني الملتزم جداً بتشكيلها الإيقاعي البنيوي المعتمد على توزيع صوتي يشتمل على سبعة عشر مقطعاً صوتياً، تتوزع على أسطر ثلاثة: يتكون الأول من خمسة مقاطع، والثاني من سبعة مقاطع، والأخيرة من خمسة مقاطع، مجارية في ذلك أقرانها من شعراء الهايكو العربية الذين نسجوا ثوابًا آخر لهذه القصيدة ينسجم وطبيعة التعبير عن التجربة العربية للذات المختلفة حتمًا عن الذات اليابانية حضارة وفكرًا وثقافة وبيئة كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل، ولم تكتفِ بذلك حسب وإنما تجاوزت ذلك إلى كسر التشكيل الثلاثي للأسطر إلى الرباعي وأحيانا الخماسي حسب مقتضيات اللقطة الشعرية اللحظوية إذا صح التعبير، مع الحفاظ على روح التشكيل الرؤيوي النابض من روح الطبيعة ومن فلسفة الشرق القديمة بكل ترسباتها الفكرية والثقافية كالبوذية والكونفوشيوسية الداعية إلى التسامح والسلام والمحبة واحترام الطبيعة ومظاهر الحياة والأشياء واستنطاق قدرتها على تشكيل الانسجام وسط التناقض، والمونتاج القائم على القطع التركيبي والوصل الدلالي والذي من خلالهما يتم حذف الكثير واختصار الأكثر، ويحدثُ إيجازاً يضمر الإيحاء لتكون الجملة الناتجة عن القطع والوصل قادرة على الانفتاح بين يدي المتلقي لمنحه الدلالة المحذوفة وأكثر، واللغوي القائم على المقابلة والتوازي والمفارقات، وعلى لحظة جمالية يشتبك فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعلية المادة وحيويتها من خلال ملامسة الوعي الإنساني لها، وقدرتها على البث الدلالي حال تشكيل العلامة، فالهايكو مشهد يبدو ساكناً، لكنه يختزن طاقة حركية تكمن شعريتها في هذا اللبس الكامن بين الصمت الظاهر والحركية المضمرة، بين التعبير المقتصد لغوياً والدلالة المطلقة ذهنياً.()
ومن الشعريات المهمة في هذه المجموعة الصياغات العنوانية للنصوص، والتي تعد في غاية الصعوبة مع نص الهايكو المغتزل والمكثف بأعلى طاقات الاختزال والتكثيف على نحو يتطلب ممن يتصدى لاختيار العنوان حساً وذائقة وطاقةً ومعرفةً وخبرةً كبيرة تُمكِّنُهُ من اختيار العنوان، فالجهد المبذول هنا يفوق طبعاً الجهد المبذول في اختيار العناوين مع الأنواع الإبداعية الأخرى شعراً وسرداً، هذه الصعوبة جعلت من البعض يتهرب من اختيار عنوان لكل قصيدة في مجموعة أو ديوان الهايكو.
سأبدأ من عنوان المجموعة الشعرية (مزامير ضيعت فردوسها) بتركيبتها الاسمية المتكونة من مبتدإ وخبر، وما يتمخض عنها من دلالات لعل أولها رمزية المزمار الديني التي تحيل إلى مزامير داود، والذات الشاعرة هنا تضفي على نصوصها دلالة المزمار لتعطيها بعد دلالي مشاعري توحي بتعلقها بهذه القصائد كتعلق داود بمزاميره، ولأن هاجس الخوف من غوض غمار هذه التجربة كبير جدا فقد أخرجتها من فردوس الشعر العربي والبحث عن فردوس آخر لا يعرف هل ستصل إليه أم لا، تاركة الأمر إلى ما بعد القراءة من قبل القراء.
ولأن النص الهايكوي نص اختزالي قائم على التكثيف فقد جاءت عناوين النصوص مكثفة ومختزلة جدا لا تتجاوز المفردتين، وبعض النصوص توجت بعنوان حرفي مثل قصيدة (إلى) وبعض النصوص جاء العنوان فيها علامة تشكيلية مثل قصيدة (؟!!) الحاوية لعلامة استفهام وتعجبين، وسنكتفي بتحليل عنوان قصيدة (نكبة):
سأخبرُكَ بوطنٍ ضيعني
أعتذرُ !!!
هل لازالَ السيابُ
يغني أنشودةَ المطرِ؟
العنوان المتسيد لهذه القصيدة بصيغته النكرة، عنوان صدامي يكشف منذ الوهلة الأولى عن مكنون النص المؤلم من جهة، ويشير إلى عموميته التي تمنح النص دلالة الإطلاق ليصلح تجسيده لكل نكبة حاضرة أو ماضية أو مستقبلية/ ولكل ذات فاقدة للوطن.
على صعيد الصورة الشعرية تأتي هذه الصور في قصائد ميديا شيخة ذات طبيعة علامية ضاغطة تقيم جسراً من التواصل العميق بين الدال والمدلول من جهة، وبين أقرانها من العلامات داخل فضاء الصورة من جهة ثانية، ثم التلاحم والتعالق مع الصور داخل النص الهايكوي القائم في الأساس على صور ثلاث، تكون الصورة الوسطى أشبه بحبة العقد الوسطية الجامعة لما قبلها بما بعدها، مع التنويه بالتضاد التي تحملها الصور إذا ما قرئت على نحو منعزل، وأما ما يجمعها فهي الصياغة الرؤيوية الشعرية التي تقرب البعيد، وتبعد القريب، وتعمل على تآلف المختلف مع بعضه، لتخرج في النهاية بمداليل جديدة للدوال تغادر معها هذه الدوال معانيها المعجمية المباشرة إلى عالم الخيال.
قصيدة النكبة
هذا الكلام يمكن أن نجد صداه في قصيدة النكبة التي حللنا عنوانها قبل أسطر، فالصورة الأولى (سأخبرُكَ بوطنٍ ضيعني) تقابلها صورة استدراكية تحاول استدراك اعترافها الحاوي لتهمة خطيرة تلصقها بالوطن، فتأتي بصورة اعتذارية مختزلة جدا، لتعبر منها الذات الشاعرة إلى صورة استذكارية صادمة (هل لازالَ السيابُ/ يغني أنشودةَ المطرِ؟) لتخلق مفارقة في منحى النص العتابي فتشير إلى حالة ضياع مماثلة للسياب وأن لم تكشف عنها الذات الشاعرة صراحة لكننا نشم رائحتها من قراءة لما وراء اللغة، فوطن السياب لم ينصفه كما لم ينصف شعبه المسكين الذي ظل يرزح تحت وطأة الجوع والمرض، كما هي حال الشاعرة في وطنها.
المفارقة بوصفها تقانة شعرية مهمة في القصيدة الهايكوية هي الأخرى حاضرة بقوة في شعرها، وتمثل واحدة من فنون اللعب الشعرية التي كثيرًا ما تستهويها وهي تسعى للعب بأعصاب قارئها من خلال كسر أفق توقع هذا القارئ وزجه في مفاجآت كبيرة وقوية تحتاج إلى رؤية قرائية واعية بالمفارقة تشكيلاً وتدليلاً والتي لا تتأتى إلا مع خزين معرفي وثقافي واسع:
الحرية
نعمة
أَفرشُ أَحلامي
دبوسٌ أحمقٌ يثقبُ بالونَ السعادةِ.
خصوصية المفارقة في هذه القصيدة الهايكوية نابعة من سمتها البصرية (دبوسٌ أحمقٌ يثقبُ بالونَ السعادةِ.) وطاقتها العلامية الكبيرة الحاملة للحظة التنوير الدلالي المفاجئ التي تصيبك بالدهشة لأن العنوان (الحرية) وما تلاه من وصف له من أنها (نعمة) تجعل الذات الشعرية (تفرش أحلامها)، وتجابه بصورة شعرية صادمة لا تدع مجالًا للحرية أن تواصل فعلها المؤثر على الذات الشاعرة، بسبب هذا الدبوس الأحمق التي تفرغ بالون السعادة من محتواها.