من الإرغام والإغواء إلى جاذبية القوة الناعمة
مزهر الخفاجي
في عشرينيات الى اربعينيات القرن الماضي ليست كل الحروب والنزاعات العسكرية والعقوبات الأقتصادية تعطي كل النتائج المرجوة.
ولسنا في معرض تأصيل جذور بدايات تبلور مصطلح القوة الناعمة لكننا لابأس ان نشير الى انها كبدايات كانت قد ارتبطت بجهود الاستشراق والمستشرقين ، في مطلع القرن التاسع عشر والتي حاول فيها الاستشراق ان يتحول الى محطات استخبارية ومقدمات استطلاع للاستعمار الحديث (البريطاني ، الفرنسي ) والبعض الاخر يعتقد ان التأسيس الثاني كان قد ظهر مرة أخرى للقوة الناعمة بعد الحرب العالمية الثانية (1949-1935) ..وقد تبلور مفهوم الحرب القوة الناعمة ..مع بداية الحرب الباردة بين المعسكرين (الاشتراكي ، والرأسمالي ) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي …لكن البعض وانا منهم اعتقدُ ان الحرب الباردة وقواها الناعمة …بعد ان نجحت في تفتيت الاتحاد السوفييتي وتهديم جدار برلين …وانغماس اوربا القديمة بالصراع بين (اللوثريين والانجيليين ) هو الذي أتاح للولايات المتحدة الامريكية في الانفراد في قيادة العالم ..وتصدير مفهوم العولمة فما بعد في طروحات زعماء القوة الناعمة (برنارد لويس، وهنري كسنجر ، جوزيف س. ناي ، غاري هارت) والتي بشرت في طروحات (نهاية التاريخ ) و(صراع الحضارات) و(الفوضى الخلاقة) هذا ما أكده ..
- في نهاية التسعينات (هنري كسنجر) وزير الخارجية الامريكية السابق بقوله :(ليس من مصلحة الولايات المتحدة ان تحل اي مشكلة في العالم ، لكن من مصلحتها ان تمسك بخيوط المشكلة وان تحرك هذه الخيوط حسب المصالح القومية الامريكية !!)
-وقد اشار الى نفس المعنى (جورج كاري) رئيس اساقفة (كانتربري ) عام 2000في مؤتمر دافوس في سوريسرا حيث:
سأل جورج كاري كبير أساقفة في الولايات المتحدة وزير الخارجية الامريكي (كولن باول) …لماذا تركز الولايات المتحدة على قوتها الصلبة ولاتعتمد على قوتها الناعمة .
واشار ان امريكا (قد استخدمت القوة الصلبة في أخر حرب .)
-لكن في خطة مارشال وحرب اليابان قداستعانت بالقوى الناعمة .
وهنا من حقنا من جديد ماهي القوة الناعمة :-يقول (جوزيف س.ناي ):- ان القوة المقصودة هنا تشبه الطقس يعتمد عليه ويتحدث عنه كل شخص، لكن لايفهمه الا القليلون ، والقوة الناعمة .
قوة عسكرية
إننا يمكن ان نعرف القوة الناعمة كذلك بأنها هي القوة التي تخلت عن القوة العسكرية وادواتها في الأرغام ، القسر في الحرب وتخلت عن استخدام القوة الاقتصادية في الأغواء والأرغام والرشى والعقوبات في اخضاع الاخر او إستسلامه .
ان القوة الناعمة المقصود بها ، تلك الجاذبية التي تقوم بها دولة ما في استخدام القيم والثقافة والسياسات مع الدول وفي الدبلوماسية الثنائية والاستخدام المتعدد لنخب الثقافة والادب والعلم والرياضة والفن في نشر قيم القوة الراغبة في السيطرة او التحكم في منظومة البلدان المراد السيطرة عليها .
القدرة على الحصول على ماتريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الارغام او صرف الاموال .
عن طريق تأثيره على بلد ما او قل ثقافته (قيمه مثلهُ )التي تعبر عن سياسته .
-القوة الناعمة هي البعد الرابع في قوة المحتلين.(القوة السياسية -القوة الاقتصادية -القوة العسكرية ) وربما امثلتها :-
- مشروع مارشال
- مشروع اليابان
- حرب الخليج 1990(جوزف نارس -ملزمون بالقيادة -مفارقة القوة الأمريكية ) .
- احتلال العراق 2003(في العراق -جوزف ناس -القوة الناعمة ) .
ويبدوا ان الحرب الحرب على العراق كانت مثالاً مثيراً للاهتمام عن تفاعل القوى بشكلها الصلب (السيتسي ، الاقتصادي ، العسكري ) والقوة الناعمة ، فقد كانت بعض تلك الحرب مبنية على الاثر الرادع للقوة الصلبة . ويقول عنها (دونالد رامسفيلد) إن الولايات المتحدة يُنظر اليها حول العالم على انها (نمر ) من ورق عملاق ضعيف عاجز عن تسديد ضربة ، وصمم على ان يقلب تلك السمعة الى العكس ، فتعاونت كل من القوة الصلبة والقوة الناعمة في زعزعة ثقة العراقيين بقدرتهم على الدفاع وقدمت الولايات المتحدة الامريكية على ان الديمقراطية وحقوق الانسان والتداول السلمي براهين كي ينتقل العراق من حكم القوى المارقة الى سلام دائم …
-القوى الناعمة استخدمها بوش منذ عام 2003 /2000 في العراق .
-ان فلسفة للقوة الناعمة قائمة على عدد الذين يكسبهم الامريكيين كحلفاء .
-ان مامثلته حرب العراق (حرب الأسابيع الأربعة ) ظاهرة ساهمت في بلورةللقوة الناعمة. ان لم يشعر بذلك العراقيين او العرب.
-ويبدوا ان القوة الناعمة كأداة والتي اعتمدت عليها الولايات المتحدة الامريكية في حرب العراق وفي المنطقة ليست كالعملة فالقوة المقصود بها (الاشخاص الموالون ، وسائل الاتصال ، مراكز البحوث ) تتغير تبعاً للظروف. وتبعاً للمهام المراد تنفيذها او الاهداف المخطط لها ،كما يقول (جوزيف س.ناي) .
اما أدوات القوة الناعمة :-
1-الإغواء (الجاذبية بالإغواء)
-التأثير
-اسلوب الجزرة والعصى .
2- (استخدام الطريقة الناجحة) ، ونقصد بها الاداة ، الاسلوب ، الاستراتيجية .
3-الزمن ، الوقت (اللحظة التاريخية المناسبة ) وتأثيرها على سلوك الأخرين .
4-التحديات والاولويات ، (تأثيرها على مصالح الولايات المتحدة وحلفاؤها والنتائج المرجوة من استخدام هذه القوى في التغيير ) .
4-تحديد الأفراد (المجنسون ، المجندون ، الموالون ، الاتباع) .
6-تحديد المؤسسات (الامنية ، الاقتصادية ، الثقافية ، مراكز البحوث والدراسات ) .
موارد القوة الناعمة:-
1-الثقافة -الجغرافية
-إن القوة الناعمة تشتغل على توريد الثقافة كمصدر من مصادر القوة الناعمة ، في هذا المجال يقول وزير الخاريجة الامريكي الاسبق (كولن باول) :-لا استطيع ان افكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل ، الذين تلقوا تعليمهم هنا ..وفي هذا المجال يشير الكاتب الامريكي (كينان هو) في إهتمامه بسياسة موازين القوة واعتبر ان وسائل الاتصال الاجتماعي والثقافي وسيلة من وسائل مكافحة الانطباعات السلبية عن الولايات المتحدة الامريكية . وقد لعبت المبادلات (البعثات) دوراً مهماً في توسيع مصادر القوة الناعمة الامريكية.
كما كان لدعم الولايات المتحدة الامريكية واوربا لبعض النشاطات العلمية والثقافية والرياضية دوراً كبيراً في خلق الموالين
2-القوة الناعمة وتسويق السياسية الداخلية :-
إن الولايات المتحدة الامريكية ورغبة منها في توسيع صلتها مع الاتباع والموالين والاصدقاء ، فأنها تحرص على تكريس ظاهرة الاعجاب بقيم الحياة الداخلية للولايات المتحدة الامريكية ، كحرية الرأي، حرية النقد ، وتسويق المبادئ الاقتصادية الليبرالية الحديثة والفردية ، تسويق مفهوم روح الجماعة كعنصر من عناصر العمل في الولايات المتحدة الامريكية ، لكن نقل القيم الامريكية المحلية كان يصتدم بالتسويق وبمشاكل خطيرة منها (التمييز العنصري ، ازدياد نسبة البطالة ، معدلات التضخم ، معدلات الطلاق) وعزوف الامريكيين عن الانتخابات وغيرها من المشاكل .
3-السياسة الخارجية:-
لقد حاولت الولايات المتحدة الامريكية في استخدامها لأدوات القوة الناعمة على اعتماد مبدأ جاذبية الولايات المتحدة اعتماداً كبيراً على منظومة قيمها الخارجية التي تعبر عنها من خلال اعتمادها سياسة خارجية تدعوا الى البرجوازية الليبرالية ، وانتشار الحكومات المدنية عن طريق التداول السلمي للسلطة واحترام الحريات الفردية وحقوق الانسان للافراد داخل المجتمعات.
إن ستراتيجية حماية المجتمعات الديمقراطية والمدنية هي السياسة الخارجية التي حاولت ان تصدر قيمها بجاذبية المنظومة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة الامريكية … لقد حرصت أمريكا بحصد ولاء القوة الناعمة وبكسب مضاعف لحلفاؤها وأتباعها ومجنديها أفراداً ومنظمات غير حكومية على ترويج للمصالح العامة الامريكية ودعواها في الحفاظ على الديمقراطية والأمن والسلم الدوليين ، وقد حرصَ على هذا الأمر المحافظون الجدد وهم في الواقع (ولسنيون- يمينيون) وهم مهتمون بالقوة الناعمة التي يمكن توليدها عن طريق تشجيع الديمقراطية الشكلية . لكن الكثير من الباحثين ومنهم الباحث (غاري هارت) يعتقد ان التسويق الفضفاظ لنظام الديمقراطية والتدخل المباشر عن طريق القوة الناعمة في ظاهرة (الربيع العربي) او الحرص على الدولة المدنية واستخدام اساليب الفوضى الخلاقة ، يضاف الى ذلك سياسة الولايات المتحدة الامريكية متمثلة بالربيع العربي اواخر عام (2010ومطلع 2011) في تونس وامتدت لتشمل باقي الدول العربية ، ولهجتهم المتشفية بالانظمة العربية تحت تسمية (الفوضى الخلاقة ) ، قد عكس انحطاط جاذبية قيم امريكا في الخارج (الحرية ، الديمقراطية ، الدولة المدنية ) .
كما كان للصراع بين النزعتين (الاتحادية الجانب ، والمتعددة الاطراف ) في الكونغرس قد عكس ان السياسة الخارجية الامريكية مصابة بأنفصام الشخصية حتى قيل ان الادارة الامريكية قد ارتكبت فعلاً شنيعاً حينما دعت قواها الناعمة الى الدولة المدنية ، في حين انها دفعت بالاسلام السياسي في مصر وتونس ، وحاورت طالبان والارهابيين في دولة أولغاركية (قطر) وهي دفعت ثمن تدويرها لنفايات القاعدة في مناطق عديدة من العالم العربي وأوربا …
ان الولايات المتحدة الامريكية حرصت ولازالت تحرص في استخدام القوة الناعمة الى الترويج مرة اخرى الى قيم السياسة الخارجية الامريكية القائمة على :
1- تقديم نموذج لأمريكا ذات النزعة الاتحادية
2- لأمبراطورية تحكم العالم ،
3- نموذج للديمقراطية التبادلية .
4- نموذج لسياسة السوق المفتوحة.
5- تقديمها(امريكا) تقود النظام العالمي الجديد.
- 6تقديمها صناديق دعم دولية مثل -نقص المناعة كأمراض الأيدز.
-صرف أموال للغزو ووكالات الفضاء.
-اجرائاتها لحماية دخل الفرد .
-تطوير الصناعة والزراعة .
-تشكيل لجنة السبعة والعشرين .
(ديمقراطية -حقوق انسان-ليبرالية).
القــــــوة الناعمــــة في روسيا والصين :-
حرصت القوة الناعمة في هاتين الدولتين القويتين في اقتفاء اثر كل من (امريكا وبريطانيا وبلدان الاتحاد الاوربي ) في الترويج لقيمها السياسية الداخلية والخارجية عن طريق الاعتماد على ( الاتباع ، الموالين ، المجندين ، وسائل الاعلام والفضائيات ، وسائل التواصل الاجتماعي ) عبر تسويق المبادئ التالية :-
قطب واحد
1- معارضتها للأستعمار الأوربي قديماً ونظام القطب الواحد للولايات المتحدة الامريكية ، ورفضها لسياسة الامر الواقع الذي تفرضه الولايات المتحدة الامريكية في انحيازها الكامل لأسرائيل في قضية فلسطين ، ورفضها لتعاطف الولايات المتحدة الامريكية وتقديمها الدعم لحكومات عائلية (اولغاركية ) رغم تبجحها في الدعوة الى تأسيس حكومات ديمقراطية في العراق وسوريا وتونس والجزائر ومصر .
2- تقديمها لمصالح اسرائيل وحلفاؤها والنــــــــفط على مصالح وحقوق الشعوب العربية ، في تأسيس حكــــــــومات ديمـــــــقراطية تخطط للمســــــــتقبل وتأسس حكومات للرفاه الاجتماعي وليس للرفاه المكوناتي او العائلي او الطائفي .
3- تقديمهم نموذج للرفاه الاقتصادي/ وقد اثبت كلاً من الدولتين الروسية والصينية ، قدرة دولتيهما على مواجهة كثيراً من الهزات الاقتصادية 2008/2007 ، والاخطار الوبائية كورونا 2020، وازمة الحرب الروسية الأوكرانية وانتهت بطريق الحزام . والتي غازلت عقول ومشاعر بعض العرب .
4- طور خطابهم الثقافي : - لقد مثلت ثقافة وأدب وفلسفة وتاريخ وحضارة الروس والصين ، جزءاً من وعي وثقافة الكثير من النخب الثقافية والأدبية والاكاديمية وقد شكل نموذج الاتحاد السوفييتي ودولة (البلشفيك) ونماذجها السياسية والأدبية والعلمية جزءاً من وعي وثقافة النخب الثقافية العربية …وكانت (يوتيبيا) بالنسبة للكثير من المنتمين لليسار العربي.
البراعة في استخدام القوى الناعمة :-
في عشرينيات الى اربعينيات القرن الماضي ليست كل تاحروب والنزاعات العسكرية والعقوبات الأقتصادية تعطي كل النتائج المرجوة .
استخدام المذياع في العشرينيات (ولسون)
استخدام منصات الأذاعة للدعاية (روزفلت)
استخدام وسائل الاعلام (مسموعة، مقروئة، مشاهدة) .
تخصيص ميزانيات كبيرة للأستثمار في القوة الناعمة .
القوة الناعمة في الأزمات :-
لقد اتضح وبشكل لا لبس فيه ان القوة الناعمة بداية تأسيسها كانت عاملاً مهماً في تسلل المستعمرين في المنطقة العربية وفي تسويف احتلالاتهم فيما بعد وفي تفتيت دولة كبرى مثل الاتحاد السوفييتي، وفي تسويق مبررات واهمة للفوضى الخلاقة في العراق بعيداً عن القوانين الدولية ، وفي بث قواها الناعمة في الترويج للربيع العربي !! وفي فرض العولمة وفرض نظام أحادي القطب تحكم في العقدين الماضيين في قضايا خطيرة في العالم …حتى كشرَ عن قواه الناعمة من جديد
وان التأثير الدبلوماسي للقوى الناعمة يأني عن طريق :-
1- البعد اليومي /يتمثل بالاتصالات المباشرة مع الناس ، ومع وسائل الاتصال ، ومجابهة الهجمات .
2- البعد الاستراتيجي /
-تطوير المواضيع البسيطة الى مواضيع اكبر.
-تقديم سياسة اعلانية اعلامية للاستفادة من المشكلة.
3- البعد البشري -العلاقات /
-افراد
-مجموعات
-مؤسسات للتأثير على الرأي العام .
إننا نعيشُ عصر القوة الرابعة بإمتياز ، عصر استغلال واستـــــثمار الغاشم او المتجـــــــبر او الكبير أياً كان اســــــــمهُ او تاريخه للقوة الناعمة .(العلمية ، الثقافية ، الفكرية ، الرياضية ، الفنية ) في تحقيق استراتيجياته الخبيثة ، نعم لقد انتقلنا من حروب الأرغام …والأغواء ..والاغراء ..الى حروب الجاذبية (حروب القوة الناعمة ).