الذكرى المئوية لثورة العشرين .. محامٍ بغدادي يسهم في إغراق الباخرة البريطانية (فاير فلاي)
احمد مجيد الحسن
تمراليوم الذكرى المئوية لاندلاع ثورة العشرين في العراق في 30 حزيران سنة 1920 ضد الاحتلال البريطاني، حيث بدأت بخروج العراقيين عن بكرة أبيهم وبكل مكوناتهم في مظاهرات سلمية ضد الاحتلال للمطالبة بالاستقلال، سرعان ما تحولت هذه المظاهرات السلمية إلى ثورة مسلحة نتيجة ممارسات الاحتلال القمعية..
وتعدُّ ثورة العشرين من أبرز الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، حيث يمكن القول إنَّ أحداثها تؤلف مرحلة قائمة بذاتها، لا سيما أنَّ نتائج أحداثها أثرت بشكل واضح في الحياة الفكريَّة والسياسيَّة، وتعد منعطفاً تاريخيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً للشعب العراقي، وبداية تأسيس الدولة العراقيَّة الحديثة.
جاء قيام ثورة العشرين جراء عدم إيفاء البريطانيين بوعدهم باستقلال العراق عندما صرح القائد البريطاني الجنرال مود عند دخوله بغداد "بأنا جئنا محررين لا فاتحين" وبسبب السياسة الجائرة التي طبقها البريطانيون أثناء حكمهم للعراق، ورعونة بعض الحكام السياسيين ومعاونيهم الذين تولوا الحكم في مدن العراق.
كانت ثورة العشرين تجربة سياسية غنية للشعب في مواجهة القوات البريطانية، أكدت استعداد الجماهير للقتال في سبيل الأهداف التي تسعى إليها، وعبرت في الوقت نفسه، عن نشوء الوحدة الوطنية بين العراقيين في مختلف مناطق العراق، وأظهرت وجود أهداف مشتركة بين أبناء الشعب العراقي، وقدرة واستعداد الشعب العراقي على خوض النضال من أجل حقوقه المشروعة.
لقد فرضت الثورة على المحتلين الأجانب تغيير مخططاتهم، والتعجيل بإقامة الدولة العراقية الحديثة، وأحبطت المشروع البريطاني الطامع في جعل العراق جزءاً من التاج البريطاني كما هو الحال في الهند.
استمرت الثورة ما يقارب اربعة أشهر تكبد فيها المحتل أفدح الخسائر بالأرواح والسلاح والأموال الى الحد الذي تعالت فيه الأصوات في مجلس العموم البريطاني تدعو الى الانسحاب من العراق لتلافي تلك الخسائر، في الوقت نفسه دفع العراق المئات بل الالاف من دماء أبنائه الطاهرة قرباناً لاستقلاله ودفاعاً عن سيادته.
ويمكن القول بأن ثورة العشرين - برغم عجزها عن تحقيق أهداف الثوار كاملة لصالح العراق، لكنها شكلت نقطة تحول أساس في سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط، وكانت السبب في تغيير سياستها إزاء العراق وفي قيام الدولة العراقية.
وفي صفحة خالدة من صفحات الثورة جرت معركة (الرارنجية)1 وهي معركة عسكرية دارت بين الثوار العراقيين والقوات البريطانية، وانتصر فيها الثوار على الرغم من التفوق البريطاني في العدة والعدد، وقد كان لهذا الانتصار الأثر الكبير في الثورة.
كانت خسائر القوات المحتلة فيها (800) رجل بين قتيل وجريح واسير، بينما خسر الثوار أكثر من بضعة عشر شهيداً وبضعة عشر جريحاً، واصبحت هذه المعركة مثالاً يحتذى به في بسالة الثوار الذين كانوا لا يملكون سوى الفالات والمكاوير والسيوف).
وقد غنم الثوار معدات واسلحة كثيرة من بينها (52) رشاشاً ومقادير كبيرة من الاعتدة والاطعمة، وكان من أهم غنائم الثوار مدفعُ من عيار (18) رطلاً، وقد أصيب هذا المدفع بعطل من جراء المعركة، في الوقت الذي كان الثوار بأمس الحاجة اليه، إذ إن أسلحتهم بالية وقديمة.
وضع الثوار المدفع بعيداً عن انظار القوات البريطانية عند شط الكوفة، وكان يشرف عليه عدد من الضباط العراقيين ممن كانوا في الجيش العثماني والتحقوا بالثوار.
كانت الباخرة البريطانية (فايرفلاي) في (شط الكوفة) تصب نيرانها المتواصلة على الثوار لتحول بينهم وبين الحامية البريطانية، لأنها كانت مجهزة بمدفعين واثني عشر رشاشاً.
نقل الثوار المدفع الى الكوفة ليلاً فوجدوا ان مغلاقه قد تعرض الى عطل، وهم بأمس الحاجة اليه، فتطوع الشاب البغدادي (عبد الرحمن خضر)2- الذي كان قد شارك في كل المسيرات والمظاهرات والاحتجاجات في بغداد ضد المحتل البريطاني - بحمل المغلاق الى بغداد لإصلاحه أو تبديله، لذا كان تطوعه استمراراً لنضاله السابق ضد المحتل.
حمل (عبد الرحمن خضر) المغلاق الى بغداد على الرغم من أنه كان مطلوباً من السلطة البريطانية لمواقفه السابقة، الا أنه جازف بحياته ولم يفكر الا في كيفية الوصول الى بغداد بعيداً عن رجال السلطة، فسافر في طريق بعيد عن اعينها متنكراً بزي عربي، مما يدل على شجاعته وحسه الوطني.
وصل الى بغداد وذهب الى شخص يعرفه اسمه (الحاج عبد الرزاق محسوب) على أمل ان يرافقه الى الكوفة لإصلاح المدفع، فأخبره الحاج بضرورة الاطلاع على نوع المدفع وحجمه.
ومن حسن الصدف ان (عبد الرحمن خضر) كان يعرف عيار ذلك المدفع، وبعد مرور عدة أيام أرسل (الحاج عبد الرزاق محسوب) مغلاق المدفع بيد (عبد الهادي الاعظمي)، وكان قد حصل عليه من معمل الجيش البريطاني في القلعة القديمة (وزارة الدفاع) حالياً، حيث كان يعمل آنذاك.
كانت فرحة (عبد الرحمن) كبيرة بحصوله على المغلاق، ولكن اخذ يفكر كيف يعود الى الكوفة مع المغلاق، لان نقاط التفتيش منتشرة على طول الطريق الى الكوفة.
لذا سلك طريقاً خفياً عن اعين السلطة عن طريق (عكركوف) ثم في الطريق الصحراوي حتى وصل الى الجانب الغربي من مدينة (المسيب)، ثم وصل (الكوفة) عن طريق (كربلاء – النجف).
فرح الثوار بوصول المغلاق، وسارع الضباط العراقيون الى اصلاح المدفع وصوبوه نحو الباخرة البريطانية (فاير فلاي)، وكان التوفيق حليفهم بالإطلاقتين الأولى والثانية اللتين اصابتا الباخرة واشعلتا النيران فيها فانفجرت الذخيرة مما أدى الى تـــــطاير أشلاء الباخرة مصحوبة بـ(هوسات) وأهازيج الثوار وذلك في 17 آب 1920.
وبعد تدمير الباخرة وغرقها، لجأ افرادها الى الحامية البريطانية، بعد ان فقدوا عدداً منهم واستراح الثوار من شرورها.
المحامي احمد مجيد الحسن - مستشار نقابة المحامين
1- (الرارنجية)، اسم لمناطق زراعية واسعة بين الحلة والكفل تبعد عن الأولى (18) كم وعن الثانية (12) كم، وتبلغ مساحتها (4000) دونم، تروى بواسطة جداول صغيرة تتفرع من شط الحلة.
2- عبد الرحمن خضر (1898- 1957) ولد في بغداد من عائلة دينية محافظة، درس العلوم الدينية على يد والده، ثم دخل المدارس الحكومية، التحق بخدمة الاحتياط في الجيش العثماني في إسطنبول سنة 1917 وبعد عودته الى بغداد دخل مدرسة الحقوق وتخرج فيها سنة 1925 ساهم في ثورة العشرين منذ انطلاقها وكان قد انضم قبل ذلك الى جمعية حرس الاستقلال الوطني السري في بغداد الذي كان يمهد لقيام الثورة. مارس المحاماة منذ تخرجه في مدرسة الحقوق ثم تولى القضاء في بغداد وديالى والموصل والناصرية والبصرة، عين بعدها مديراً عاماً للأوقاف. ألف عدداً من الكتب القانونية والفقهية، وكان محاضراً في كلية الحقوق ومدارس الشرطة.
المصادر:
- جابر حسن علوان، المحامي عبد الرحمن خضر، وأثره الوطني والفكري في العراق 1898- 1957 رسالة ماجستير غير منشورة محفوظة في متحف نقابة المحامين، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، بغداد 2004.
- سعد عبد القادر ماهر، تراتيل على شاطئ البحر، قصة العراق، ج1 ص46 منشور على الموقع الالكتروني: https://books.google.iq/books?id=w8m5DwAAQBAJ&pg=PA45&lpg=PA45&dq