اسمك يا بغداد الذي أرددهُ متغزلاً بسحرك يوم أصبحتُ مجنونا بك، يتساقط من فمهِ رطباً جنيَّاً ويسيلُ من عينيهِ عرق جبين الفقراء وحليب الأمهات، أيتها الفاتنة المجبولة من نفحات نور الله وغبار سومري مضيء تلوذ تحت جناحيه جميع المدن الأنثوية، لا أطيار أجمل فضة من نوارسك التي تحلق من عينيك الماسيتين فوق جسر دجلة، ولا عنادل تشدو أجمل من بلابلك على شجرة تين ترضع عسلاً من الفرات، أيتها الأنثى التي شغف في رقتها وعذوبتها أمراء وشعراء وسلاطين وفرسان صعاليك وعتَّالون وعابرو سبيل، في بحَّةِ صوتك يذوب صوت الكمان وفي شدوك تصدح مقامات عراقية حتى تفيق الموتى من سباتهم العميق، أيتها المزدانة بالشظايا والنخيل والشمع الملكي والرماد المقدس الذي هو الكحل المثير لأجفان الحلوات، ما من مدينة في أصقاع الدنيا تشبه رونقك وسحرك وهدوئك وغضبك وجنونك ورقتك وحربك وشعرك الذي يعرّشُ كغابات من السندس على ضفاف دجلة. هذا الغنج لا يليق إلاَّ بك؛ أيتها الحلوة كشمس تستحم بالسحاب، من تحت خطاك تتدفَّقُ قصائد الشعراء والجنود الراحلين بحثاً عن الحرية في حروبك التي ما خبت نيرانها في مواقد الحُسَّاد والغزاة، يا لغز السحرة والعرافين في مفاتن خدودك التي تشبه حقولا من التفاح، ويا لرنين خلاخلك البغدادية وأنتِ ترقصين “الهجع” في السهوب المشتعلة بالغناء والحنين، على جبينك ركع الأتقياء للصلاة، وبين أحضانك يلوذُ الملوك، ومن مجاهيل صدرك شهقت قباب الذهب ومنائر النداء، أيتها المنسوجة من حرير الفردوس والمرصعة بثمار شجرة الطوبى، حين تفتحين ذراعيك تنهمر الأنهار والحقول والبساتين والخيول وحور العين، وكلما شدَّتْ النار أوزارها على جسدك البتول، أمطرتْ السماوات جرار العبرات من عيون الملائكة، فاتنةٌ أنتِ مثل جنَّة الصالحين، وباسلة مثل فرس ما تعبتْ من الصهيل والقتال ومن الجري بدروب الجمر والنبال، حزنك الشفيف يشبهُ نايات عذارى لم تدشَّن الشفاه نفخ ريح الخماسين في جوفها، ولم تتراقص أصابع السماء على ثقوبها الوامضة بالنجوم، أيتها الأغنية الثائرة في مهجة الروح، كل فجر تستيقظ مفاتن روحك ملتاعة بحب الحياة، مفاتنك تغازل نصب الحرية، وجدارية لفائق حسن، وشارع الرشيد، وقصيدة للجواهري، ونصب السياب على العشار، و شناشيل مقهى البرلمان، وحمام الحضرة في مرقد مقدَّس، أيتها المدينة البتول التي تاهتْ عربات الغزاة عند قدميك المضمَّختين بالحناء ورائحة البخور، ضفائرك سرب شموع متوهجة في غدير، وعبراتك ليرات ذهب في غابات مظلمة، أيتها الطاهرة مثل كفن نبي، والناصعة كقمر في سماوات صيف، لا غير حضنك الذي يسع الأرض بمشارقها ومغاربها من يأوينا، نحنُ الذين شرَّدنا أبناء الحرام و حطَّمت أحلامنا الخطوب والحروب والمجاعات، مشتاقون يا بغداد بجنون الملتاع لعناقك حدَّ أنَّ الوجد الذي يتلظَّى في مجاهيل صدورنا صار ينضج الرغيف كما ينضج في تنور، أيتها الأميرة الرابضة في هودج من الاستبرق وعلى أكتاف أبنائك السومريين لما يزل محمولاً منذ آلاف السنين، أبناؤك الذين ينهبون دروب العوسج بخطاهم ولا يأبهون، ويستنشقون رائحة البارود ويغنون، بغداد لنْ يتعبنا حبك، ولنْ نكلّ أو نسأم من الجنون فيك وتبقى عروقنا وشهقاتنا تعشقك حتى يوم يبعثون؛ أو نعود رفاة لندفن في مقابرك المقدَّسة. بغداد سورة الشوق التي نلهج فيها في كل شهقة نحنُ الغرباء في مهاجرنا البعيدة.