طلال الغوّار.. شاعرُ الأَصالةِ والتّجريبْ
.أحمد يوسف داود
إذا كانتِ السّياسةُ في العالم كُلّهِ ذاتَ طابَعٍ براغماتيٍّ صِرفْ، فإنّ الشعرَ الأَصيلَ لا يُمكنُهُ بَتاتاً أًن يَكونَ كذلكَ على الإِطلاقْ!.. وَمنْ جِهةٍ أُخرى فإنَّ الشِّعرَ في عَصرِ التّواصُلِ العالَميِّ المَفتوحِ - كما هي حالُ زَمانِنا الراهِنْ – لا يُمكنُ، ولا يَصُحُّ، حَصرُهُ في قالبٍ واحدٍ بِحجَّةِ (الحِفاظِ على الأَصالةِ)، وَفقاً لِما يَرى كثيرونَ في عَديدٍ من بُلدانِ العَربْ، معَ أًنَّ بَعضَ هؤلاءِ مازالوا مُغرَمينَ بأن يحافِظوا بِقوّةٍ على أنماط قَوليةٍ من ألوانِ (الشِّعرِ العامّيِّ) المَوروثِ تَحتَ تَسمِياتٍ قَديمةٍ عَديدةٍ، وهي ثابِتةٌ كما لو أنّها نُسَخٌ لأَشكالٍ قَوليّةٍ باليةٍ، لكنَّها أقربُ عِندَهم إلى أَنْ تكونَ شِبهَ مُقدَّسةْ!.
وعَليهِ، ومن بابِ أنّنا لم نزلْ جُزءاً تابعاً لِمَن هم "سادةُ الكُلِّ العالَميِّ"، رَغمَ جَميعِ ما نَدَّعيهِ من تعالٍ زائفٍ على مُجمَلِ ما يوجدُ فيهِ من مَظاهِرِ "غَطرَسةِ القُوّةِ"، فإنّنا - وَفقاً لِسَويّاتِ تَطوُّرِنا - يَبدو تأَثُّرُنا كما لو أنّنا لم نَزلْ تابعَينِ تَبعيةً شِبهَ كاملةٍ لِمُجمَلِ ما لدى سٍوانا من سويّاتِ التّطوُّر التي تَتبدَّى في صِيَغٍ ونَواتِجَ صارَتْ كلُّها تُدعى، من بابِ تهوينِ أًمرِها، باسمِ (عَوامِلِ القُوّةْ).. أَقولْ: رَغمَ ذلك كُلِّهِ، وما قد يُشابِهُهُ من نَتاجاتِ تلك الغَطرَسةِ المَفتوحةِ بلا حُدودْ، فإنَّ تطوُّرَنا الشِّعريَّ يَصِلُ ما بَينَ الأَشكالِ الثّلاثةِ للقَصيدَةِ عِندَنا: شَكلِ القَصيدةِ العموديّةِ الذي هو مَوروثٌ أصلاً، وشَكلِ قصيدةِ التّفعيلةْ التي اشتُقّت من سابقتِها في العِراقِ أَوّلاً، كما هو مَعروفْ.. ثمّ شكلِ "قَصيدةِ النّثرِ" التي نُقِلَتْ - حرفيّاً - عَنْ الشاعرِ الفَرَنسيِّ شارل بودلير، وَفقاً لِما كَتبتْ سارا برنار في أُطروحتِها لنَيلِ الشَهادةِ العليا - أَو الدُّكتوراهْ - في الأدبْ، منْ جامِعةِ السّوربون في باريس عام 1958، حيثُ إِنّها ما كادت تَصِلُ إلى بيروت حتى تَمّ تلقُّفُها ونَقلُها من قِبَلِ جَماعةِ (مجلة شعر) في عامَ 1960 وكان تلقُّفُها بمثابةِ (قِشّةِ إنقاذْ)، إذْ بَدأَ شُيوعُها يَتواتَرُ لتُصبِحَ ما قد صارتْ إِليهِ الآنَ من شيوعٍ: ثَبَّتَهُ بقوةٍ كبرى لاحقاً ظُهورُ (الأنترنت) وشُيوعُ تَطوُّرِهِ السَّريعِ جِدّاً تَطوُّراً لامَجالَ للتّراجُعٍ فيهْ!.
وما يَهمُّنا هُنا هو أنّ (قَصيدةَ النّثرِ) هذه قد باتتِ الآنَ على دَرجةٍ كُبرى منَ َالانتِشارِ حتى لقد غَدتِ هيَ الأَكثرَ استِعمالاً على هذا الذي سَمَّوهُ (الفَضاءَ الافتِراضيّْ)، وصارتِ الآنَ تَمتلِكُ النِّسبَةَ الغالِبةَ منَ الاهتِمامِ غَيرِ المَسبوقِ بَتاتاً!.
وعلى أَيّةِ حالٍ، أَودُّ أَنْ أُشيرَ هُنا إلى أًنّ ما دَفعَني لِكِتابةِ هذا التّقديمِ الشائعِ والمَعروفِ لدى المُهتَمّينَ عُموماً، هو أًمرُ الدُّخولِ إلى قِراءةٍ لآخِرِ ديوانَينِ نَشرَهما الشاعرُ الكَبيرُ الصّديقْ: الأُستاذ طلال الغَوّار منَ العِراقْ، حيث أَنّني أَراهُ أَحدَ أًهمِّ شُعراءِ جيلِهِ - إن لم يَكنْ أهمَّهم جَميعاً - وهما الدّيوانانِ الثامنِ والتّاسِعِ لَهْ مُنذُ عامِ 1995 حتى الآنْ.. وأَعتقِدُ أنّهُ قد تأخّرَ في ابتِداءِ النّشرْ قبلاً، ولكنَّ ذلكَ ليس هوَ ما يجبُ أنْ يَهُمَّنا أو يَعنِيَنا في هذهِ المَقالةْ، بل إِنَّ الذي يَهمُّنا هو عُمقُ الشّاعريّةِ وقُوّتُها، رغمَ بَساطةِ القَولِ الشِّعريِّ في كلا الديوانَينِ اللّذَينِ قد اختَرتُهُما لعَرضِ الأَدِلّةِ على دِقّةِ ماكُنّا قد ألْمَحْنا إليهِ مِنْ عُمقِ القَولِ الشعريِّ وجَمالِهِ لدى صديقِنا الشاعرِ الكبيرْ طلال الغوّارْ.. وعليهِ، فلْنَبدَأْ بأمثِلةٍ دالّةٍ على صِحّةِ ما سَبقَ أَنْ قُلناهُ في جَمالِ وأهمّيةِ شِعرِهِ المَوزونِ والمَنثورِ، وفي عُمقِ دِلالةِ كلٍّ مِنهما وفَرادتِهْ، وسنَبدَأُ أَوّلاً بنَماذجَ منَ الدّيوانٍ الثامن:
)) شُموسٌ في الظِّلّ:
يَقولُ شاعرُنا في مُستَهَلِّ هذا الدّيوانْ:
(مَهما استَبدَّ الظُّلمُ بي
أَو ضاقَ بي زَمَني
لن أَنحني
لِسِواكَ يا وَطني))
وهذا بالطبعِ افتِتاحٌ بالغٌ القيمةِ والأهميَّةِ إنْ شِئنا الدِّقّةَ والأَمانَةْ!.
ثُمّ نَقرأُ في الصّفحةْ 29 ، على سَبيلِ المِثالِ لا الحَصرْ، قَصيدةً مَوزونةً بِعُنوانْ:
- طِفلٌ أَنا –
نَحَتَ الصّباحُ مَلامِحي
ومَضَيتُ،
تَقرأُ جَبهَتي/ شَمسٌ ويَتبَعُ خطوَتي شَجَرُ!.
فإذا أَشرتُ إلى الغيابِ تَفتّحتْ
بَينَ الأَصابِعِ زَهرةُ المعنى ولي/نَجمٌ بظَهرِ الأُفْقِ يَنتَظرُ!.
طِفلٌ أَنا أَمشي على أَطرافِ هاويةٍ/
فكأنّني سَفرٌ../
يَمضي بهِ سفرُ!.
يَقظانُ في وَسَني تُقلِّبُني على/ كَفٍّ مراياهُ فأكسِرُها وأَنكَسِرُ!.
فرَأَيتُني جُرحاً يبعثِرني على/ أَوتارِهِ شجَناً ويَجمَعُني مَعي
عِندَ المَسا وَتَرُ!
وكما نَرى، فإنّ هذهِ القَصيدةَ لا تَحتاجُ الجَماليّةُ فيها إلى شُروحٍ أو إِطراءْ!.
وفي قَصيدةٍ أُخرى تَحمِلُ عُنواناً هوَ (الفَتاةُ النحيلة) نَقرأُ ما يَلي:
(( قُلْ لِتلكَ الّتي تَختَلي عِندَ نافذةٍ لِلمَساءْ/
تَأسِرُ في النّبضِ وَقعَ الزَّمانِ الكَسولْ/
وتَظلُّ تُقَلِّبُ لَيلاً طويلاً/
كي تُرمِّمَ بالحُلم روحاً وبالذّكرَياتِ الجَميلَةْ!.
قُلْ لِتلكَ الفَتاةِ النّحيلةْ/..
عِندَما يَنبُتُ الزّهرُ في خَوذتي/..
في الثُّقوبِ التي خَلّفَتْها الرَّصاصاتُ في خَوذَتي/..
وَقتَها سأَعودُ وتَدّافَعُ الطُّرقاتُ طَيِّعةً نَحوَ خَطوي/..
ومَعي سَوفَ تدّافَعُ الأُغنِياتُ الجَليلَةْ!.)).
وبالمُقابلْ، نَجدُ (قصائدَ نثرٍ) كَثيرةً بالِغةَ الجَودةِ، وقد اختَرتُ مِنها نصَّينِ اثنَينِ فقط كي أتجنّبَ الإطالةْ، وهما نَصٌّانِ أوّلُهما في ص 77 بعُنوانٍ هو: "شموسٌ لم أَرَها":
(( هكذا أَثقَلتُ سنَواتي بالقصائدِ/ وأَنا أَسيرُ في كَلِماتِها/ كما لَو أنّي أَسيرُ خَلفَ غَيمةٍ/ أَثْقلتُها بِشُموسٍ لم أرَها أَبَداً/ وأنا أستَعجِلُ حُبَّ امرَأَةٍ/كما لَو أَنَّ الحَياةَ واقِفةٌ على طَرفِ هاويةٍ/ أَثْقلْتُها بِمَرايا لا تُدَوِّنُ إلّا جراحَ الغِيابْ/ أَثقَلْتُها بالنّوافذِ وأَنا أَنتَظِرُ صباحاً تَمشي فيهِ الأشجارْ))!
ونُلاحظُ هُنا أنَّ "ضَربةَ الخِتامْ" قد مَنحَتْ بُعداً جَماليّاً عالِياً لهَذهِ المَقطوعةِ النثْريّةِ القصيرة!.
أمّا النصُّ الثاني فهوَ التّالي، في ص 134 بعُنوانْ (الجَبَلْ):
))جَفَلَ الجَبلُ فهوى
كانتِ السُّفوحُ تَهبِطُ بِظِلِّهْ
حينَ رَأى السُّهولَ المُجهَدَةَ
تُلقي بأَعناقِها عِندَ أقدامِهِ
وَهيَ مُمتَلئَةٌ بكَدْسِ الأحلامْ((!.
ومن المُفيدِ هُنا أَنْ أُشيرَ إِلى أَنّ ما تَلي هذهِ القَصيدةَ هي قصيدةُ تفعيلةٍ في صَفحةٍ واحِدةْ تَمنّيتُ أَنْ أُورِدَ نَصَّها، ولكنّ الحَيِّزَ المُتاحَ قد لا يَتّسِعُ لذلكَ، معَ الأَسفْ!.
وقد يَكونُ مُناسِباً هُنا أَنْ أُورِدَ حِصّتي من كلِمَتَيْ غِلافِ هذا الدّيوانِ اللّتينِ تشاركتُ فيهما مع صَديقيَ الشّاعرِ الفلسطينيّ المَرحومْ خالد أبو خالد، إذ قد كتَبتْ: (الشّاعرُ المُتَميِّزُ طلال الغوّارْ هو أَحدُ الوارثينَ الكبارِ في جيلِهِ (لقصيدةِ التّفعيلةِ) التي وُلدَتْ ونَمتْ وتَطوّرتْ في العِراقْ، ومنَ العِراقِ انتَشرَتْ حتى عمَّتْ سائرَ بِلادِ العربْ، ولكنّ الشاعرَ طلال الغوّار يُطوّرُ أَيضاً (قصيدةَ النّثرِ) التي ولِدتْ في لُبنانَ وعَمّتِ البُلدانَ العَربيّةَ على أسُسٍ جَديدةٍ حيثُ يَعمَدُ كثيراً إلى خَلطِ الشكلَينِ الشعريّينِ في القَصيدةِ الواحِدةِ بنَجاحٍ واضحٍ كما نرى في هذا الديوان./.
ويبقى عَلَينا في ختامِ هذه المَقالةِ أَنْ نَعرِضَ منَ الدّيوانِ الثاني الذي يَحمِلُ العُنوانْ: (القَصيدةُ تَبحثُ عنْ زَمنٍ آخرْ) فنَقولْ: إنَّ هذا الديوانَ يَقعُ في مئةٍ وثماني صَفْحاتٍ فقطْ، ولا يَخرُجُ فيهِ شاعرُنا عن أُسلوبِهِ الذي سبَقَ أَنْ رأًينا نموذجاً منه في ديوانِهِ السّابقِ إلّا في الطّولِ النّسبيّ لغالبية قصائِدهِ هنا، بالقِياسِ إلى قِصَرِها النّسبيِّ في سابقِهِ، حيثُ إنّهُ قد أخذَتْ كلُّ قَصيدةٍ هنا نَحواً من ثَلاثِ صَفْحاتٍ وَسَطيّاُ، إذ إنّ عدَدَ صفحات الدّيوانِ التي هي مُخصَّصَةٌ للقَصائدِ قد بَلغَتْ مائةَ صَفحةٍ خاصّةٍ بالنُّصوصِ الشِّعريّةِ التي بلغ عَددُها بدورِهِ اثنَتَينٍ وثلاثينَ قصيدةً، أَيْ ما يُساوي - وَسَطيّاً - نحوَ ثلاثِ صفحات تقريباً لكلّ نَصِّ ,قَصيدةْ، ولكنّني بَحثْتُ عن نَصٍّ قصيرٍ فوَجَدتُهْ، وها أنذا أَختَتِمُ هذهِ المَقالةَ بهِ بلا تَعليقْ:
- أوّلُ الحبّْ -
(( زَهرةٌ تَخرُجُ من حَديقَةْ/ وتَسيرُ وَحدَها في الطّريقْ/زَهرةٌ مُتفَرِّدةٌ بعِطرِها/ حينَ تَرفعُ قُبَّعتَها وتَلتَفتُ نحوي/ غَيرَ مُباليةٍ لِنَظراتِ العابرينْ/ يَغتَبطُ قلبي ويَطيرُ خلفَها مِثلَ فَراشةْ/ قلبي الذي أتعبَهُ الحبُّ كثيراً/ كما لو أَنّهُ لم يُحبَّ يَوماً/ صِرتُ أَراها كَلِماتٍ تَنثالُ بأَثوابٍ مُلَوّنةْ/ تَنفَتِحُ دَهشَتُها قصيدةً بَينَ يَدَيّْ/ هكذا هيَ القصائدُ تكتُبُني دائماً/ فكم هوَ جَميلٌ إذاً وأنتَ تَمُرُّ قُربَ حَديقةِ زُهورْ/ فتَرى زَهرةً تَخرُجُ منها/ وتَسيرُ وَحدَها في الطّريقْ/ وبالْتِفاتَتِها تَبدأُ الحياةْ/ وكأَنّكَ في أَوّلِ الحُبِّ أَو أَوّلِ الشّغْرْ))!.
وهنا أَتَوَقّفُ، إذ إنّني لا أرى ما هوَ أجملُ من مِثلِ هذا الخِتامِ الذي لا يَحتاجُ مَعهُ النّصُّ إلى أيِّ كَلامٍ آخَرْ!./.
*ناقد وروائي سوري