تعبر الدول المدنية التي تحكمها مؤسسات وقوانين عن الصيغة المتحضرة للأنظمة السياسية العصرية والتي تمخضت عن حالة تطور حضاري امتد لمئات السنين التي عاش فيها البشر وفق انماط علاقات عشائرية وقبلية وأسرية وغيرها.
ولأسباب كثيرة من تكاثر بني البشر وتصاهراته وتداخل أنسابه، وما حصل من هجرات ونزوح، وحروب وغزوات واحتلالات وتطورات اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية ومناخية، كلها قادت الى عدم تمكن شعب أو أمة ان تحافظ على نقاء عرقها أو وحدة دينها أو طائفيتها. بيد ان هذه الشعوب عادة ما كانت تتكون من مجموعات اجتماعية يربطها الحسب والنسب مشكلة ما نسميه بالقبائل والعشائر والأسر الكبيرة، تعلمت كيف تتعايش في ظل عقد اجتماعي ممثل بالعادات والتقاليد وضوابط الاخلاق الاجتماعية، من ناحية، وبالقوانين والأنظمة التي تقرها وتفرضها الكيانات السياسية الممثلة بالدول والسلطات من ناحية أخرى.
ومع تقدم الزمن وتطوره الحضاري مالت الكفة لصالح مؤسسات الدولة وسلطاتها على حساب القوانين والأعراف للمجموعات البشرية الاجتماعية من قبائل وعشائر ومرجعيات روحية، وانتهت كثير من المجتمعات الى فصل الدين عن الدولة، وبالتالي ضعف تأثير مؤسساته في تحديد وتوجيه العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أقول: حصل ذلك مع تطور الحياة وفي اطاره تطور دور الدولة بمؤسساتها وقوة تنفيذها للقوانين والأنظمة واعتراف ابناء المجتمع بها والانصياع الى أوامرها.
هذه الدولة التي تكتسب احترامها وقوة حكمها من جملة من الأمور، منها:
- شرعيتها وشرف توليها الحكم
- اخلاقيات حكمها العادل والأمين
- كرامتها الوطنية وحفاظها على سيادة البلد
- اعتراف المجتمع الدولي بها.
- قدرتها على فرض القانون على الجميع دون تمييز أو تردد.
- قدرتها ودورها في الحفاظ على كرامة المواطن.
إن البلد الذي لا تقوى دولته على التمتع بما أشرنا اليه، تفقد بريق هيبتها وقدرتها على ممارسة دورها في حكم ذلك البلد، ويشعر المواطن فيها أنه في غابة تحكمها قوانين اخرى غير تلك التي للدولة المثلومة الشرف، عندها يروح يذهب يبحث عن قوة عرقية أو اجتماعية أو روحية أو سياسية تحميه وتحقق مصالحه.
هذه الحال نجد تطبيقاتها الواقعية في عراق ما بعد الغزو والاحتلال عام 2003،
حيث ان شرعية الدولة وشرف قيامها على اثر الغزو والاحتلال مثلوماً، وأنها لم تحقق ولم تتصف بكثير مما جاء في ما ذكرناه من مقومات حكم مهاب ومحترم ومطاع من أبناء الشعب، مما يدفعهم الى العودة الى قبائليتهم وعشائريتهم ومرجعياتهم الروحية غير المتصالحة، للأسف، مع بعضها البعض، لا يربطها ببعضها الا تقاسم غنائم وديات ثأر!!