دعوات لتأسيس جمعيات تحافظ على التراث الفني
بغداد – عدنان أبوزيد
تندثر بنايات دور السينما في بغداد ومدن العراق، حتى أصبحت جزءًا من الذكريات التي تسترجعها الأجيال السابقة.
وبعد أن كانت السينما تشكل متنفسًا ثقافيًا واجتماعيًا للعائلات والشباب، أغلقت أغلب الدور، وهدمت او تحولت إلى مراكز تجارية. وتزامن هذا الانحسار مع تطور وسائل الترفيه الحديثة مثل الهواتف الذكية والمنصات الرقمية، لكن ذلك لا يبرر الإهمال الحكومي لدور السينما التي تعد معلما تراثيا وثقافيا وفنيا.
واصبحت العديد من دور السينما البغدادية الشهيرة مثل سينما “النصر”، “سميراميس”، “غرناطة”، وسينما “أطلس”، أما أماكن مهملة أو تم تحويلها إلى مراكز تجارية أو مشاريع سكنية، الأمر الذي جعل العديد من المواطنين يعبرون عن حزنهم على ضياع جزء من تاريخهم الثقافي.
ورغم المحاولات الفردية، للحفاظ على بعض الصروح السينمائية القديمة مثل سينما الخيام في بغداد، إلا أن الواقع الحالي يعكس حالة من الحنين والحسرة لدى كثير من العراقيين الذين نشأوا في رحاب هذه الأماكن الثقافية.
تظل هذه الدور شاهدة على حقبة ذهبية في تاريخ الفن السابع في العراق، إلا أن مستقبلها يظل غير واضح وسط التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد.
ويتناول الكاتب والصحافي علي الحسن، واقع السينما العراقية، حيث التقط صورة أمام مدخل سينما الخيام في بغداد، “البائس”، كاشفا عن حالها المؤسف الذي يتجه نحو الزوال، داعيا الى الحفاظ على المعالم الثقافية التي كانت تمثل متنفسًا هامًا لعائلات بغداد. وأضاف “قبل أيام كنت في زيارة لشارع الخيام.. وكم آلمني رؤية يافطة اعلان بيع سينما الخيام مع أجهزتها.. اقتعدت عتبتها التي لم تعد انيقة وصاخبة كما اعتدت رؤيتها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.. احسست كأنما ذكرياتنا السعيدة في هذه السينما العريقة، هي المعروضة للبيع”.
يضيف الحسن “سينما الخيام، أيقونة سينمات بغداد، وإحدى علامات بهجتها، دار العرض التي امتلكها يومذاك رجل الاعمال الأرمني إسكندر اصطيفان، كانت تصنف، كأفضل سينمات الشرق الأوسط، بصالتها التي تتسع لـ 1500 مقعد متحرك بغطاء جوخ أحمر، وجدرانها المزدانة بلوحات فسفورية مستوحاة من رباعيات الشاعر والعارف عمر الخيّام، بينما انتشرت على سقفها اضاءة على شكل نجوم، تتوهج بنعومة عند الاظلام، واستوردت أجهزتها وتقنياتها من مناشئ معتبرة، وبلغت تكلفتها (300) ألف دينار عراقي، وهو مبلغ كبير بحسابات تلك الأيام”. وافتتحت ” الخيّام” بفيلم “هيلين بطلة طروادة” من تمثيل جاك سيرانس ورزانا بوديستا في أيار 1956، واستقطبت جمهورا أغلبه واعٍ مثقف، ووضعت ادارتها، معاييرا لاستيراد أفلامها، أهمها أن تكون مناسبة للذوق والتقاليد العراقية، وناطقة بالإنكليزية أو تدبلج بها، لتلائم أذواق الجمهور، وكانت حصة الأفلام العربية والعراقية أقل بكثير من نظيرتها الأجنبية، ولعل الحدث الأبرز فيها حضور الزعيم عبد الكريم قاسم عرض فيلم “ام الهند” 1959 برفقة حارس واحد، اذ أصرَّ على دفع تذكرة السينما، وجلس بين الناس.
وقال الكاتب أحمد داخل، في تعليق له على فيسبوك حول مصير سينما الخيام: “مشاهد مؤسفة”، مشيرًا إلى واقع السينما العراقية الذي أصبح محط أسف للكثيرين.
وقال عبد الرحيم علي: “كل الأمم تتقدم ونحن نعود القهقرى؟” معبرًا عن مشاعر الحزن العميق والتساؤلات حول تأخر العراق في تقدم المجال الثقافي مقارنة بالدول الأخرى.
ومنذ عقود طويلة، كانت السينمات في بغداد والمحافظات العراقية وجهات ثقافية واجتماعية أساسية، تجمع بين العائلات والأصدقاء لمشاهدة الأفلام في جو من المتعة والرفاهية، وشكلت جزءًا من ذاكرة أجيال متعاقبة والتي أصبحت حاليًا معروضة للبيع.
ونالت دور السينما في الموصل من الخراب والتدمير ما لا يصدق، حيث تغلق صالات العرض لتتحول الى مخازن ودكاكين بعدما انحسر الاستثمار في السينما.
وفي مدينة مثل الحلة، كانت دور السينما تشكل مراكز إشعاع ثقافية لابناء المدينة، فقد زخرت بالعديد من الدور من مثل سينما الخيام، وسينما الفرات، والجمهورية. غير ان هذه الدور تلاشت منذ التسعينيات حتى انتهى دور السينما في الحياة البابلية تماما منذ العام 2003. وفي البصرة كانت دار سينما “اطلس” مقصد العراقيين والخليجيين. وفي مدينة مثل الديوانية، وقفت الجـماعات المتطرفة ضد السينما، وكـــانت تعمم بين الجمهور بحرمة مشاهدة الافلام، ما دفع بالكثيرين الى تجنب ارتياد دور السينما. وأنشأت أول سينما في مدينة الديوانية عام 1936.
ويتحدث الكاتب زيد الحلي عن مأمون الشيخلي، وهو نجل رائد من رواد الجيل السينمائي العراقي وهو صالح الشيخلي الذي كان مقر الاستديو الخاص به في شارع الرشيد، وعلى يديه خرجت افلام عراقية عديدة الى النور بعد قيامه بعمليات الصوت والمونتاج، بإمكانات واجهزة متواضعة، لكن بحرفية مكتسبة.
يقول الحلي “لقد كشف هذا الرجل الغيور عن المقبرة التي ضمت أشلاء دور السينما، بالقول ان محافظة نينوى وحدها كان فيها 21 دارا للعرض وفي بغداد 52 دارا وعشرات في المحافظات، بل ان بعض الاقضية كانت تمتلك دور عرض صيفية.. كل ذلك انتهى الى ( خبر كان ) عدا صالات عرض في بعض المولات ذات الكراسي المحدودة، واسعارها العالية، والسب هو النظرة القاصرة التي ينظر فيها المسؤولون الى السينما، ناسين ان السينما اماكن ثقافية، وبالإمكان رؤية انتشار دور العرض السينمائي في دول الجوار كإيران وتركيا والأردن”. وفي سياق ردود أخرى، قال كاظم حاتم: “وهكذا الواحدة تلو الأخرى تستباح الملاذات السعيدة التي تحصنت فيها أرواحنا من أدران القبح وحلقت في عوالم الصدق والآمال”. هذا القول تضمن تأكيدًا على القيم التي كانت السينما تمثلها في حياة الكثيرين، وألمًا لزوال هذه الملاذات.
بينما قدم سامر خمّورو اقتراحًا عمليًا، إذ اقترح على المثقفين والفنانين تأسيس جمعية لشراء سينما الخيام وحمايتها من البيع، قائلاً: “ماذا لو تداعى بعض المثقفين والفنانين لتأسيس جمعية خاصة لإصدار أسهم وطرحها للجمهور العراقي عبر الإنترنت؟”.
العديد من أبناء جيل السبعينات والثمانينات لا يزالون يحنون إلى تلك الأيام الخوالي، حيث كانت السينما تجمعهم مع الأصدقاء والعائلة، مع مشهد “فلافل أبو سمير” أو “مرطبات الركن الهادئ” بالقرب من دور العرض. كانت هذه الأماكن تشكل جزءًا من نسيج الحياة اليومية في بغداد، وتعتبر الآن ذكريات لا تقدر بثمن بالنسبة للكثيرين.
من جانب آخر، اعتبر الديباجي كامل أن ما يحدث للسينما ليس مقتصرًا على العراق فقط، بل هو حالة عالمية بسبب المنافسة مع البدائل الحديثة مثل الهواتف المحمولة، وقال: “اعتقد أن هذا حال كل دور العرض السينمائي في العالم”. في حين أعرب جعفر جمعة عن مشاعره قائلاً: “مكان جميل يحمل كثير من ذكرياتنا”، مشيرًا إلى أن السينما كانت بمثابة أحد المحطات الحياتية المهمة.
التشكيلي طالب جبار كان له رأي حزين أيضًا، إذ قال: “مات ذكرياتنا”، في إشارة إلى أن تلك الذكريات قد اندثرت مع تدهور السينما.
وفي تعبير آخر مليء بالحنين، قالت إقبال كاظم: “أعدتني 60 سنة إلى الوراء.. كانت أمي وخالتي من المغرمات بمشاهدة الأفلام الجيدة”. وأضاف أنه “ربما سيعرض للبيع بدلاً من الحفاظ على تاريخها، أو ربما سيحولها أحد رجال الجيوب المنتفخة إلى مول”.
حيدر عبد الخضر لم يكن أقل تأثرًا، حيث قال: “ذاكرتنا الصاخبة ومحطاتنا الموجعة”. بينما علق قاسم محمد علي قائلاً: “ذكريات رائعة وجميلة.. ربما سيأتي زمن جديد تعود فيه الأشياء الحلوة”.
من جهته، غسان رسام أشار إلى أن “سينما الخيام كانت معلما حضاريا مهما في تاريخ بغداد، وكبقية تلك المعالم، أخذت طريقها إلى الزوال أمام الهجوم الريفي الساحق الماحق”، ليكشف عن جانب اجتماعي قد ساهم في هذه المشكلة، فيما اعتبر سعد الهلالي أن “كل شيء إلى التغير والزوال.. لا نملك سوى الحسرة والأسف”. عادل جاسم استذكر سينما الخيام بحبٍ كبير، حيث قال: “ذكريات سينما الخيام العشق منذ الطفولة لحد الكبر، راقية بكل شيء”.
الكاتب نوزاد حسن عبّر عن أسفه على فقدان هذه المعالم الثقافية.
و نوه نهاد حامد إلى أنه “للأسف لا نستطيع في هذا البلد الحفاظ على أبسط معالمنا الثقافية التي سبقنا بها الآخرين”. وعبر كاظم الكعبي عن استياءه من حالة البيع التي تطال كل شيء.
أما فالح مهدي فاعتبر أن ما يحدث للسينما هو “دليل آخر على لحظة الخراب التي ألمت بهذا البلد “، حيث أضاف قائلاً: “لم أرتد سينما في حياتي كما فعلت مع هذه الدار العظيمة”.
و قال إبراهيم هلال العبودي: “السينما كانت المتنفس الوحيد للعائلة العراقية وقت ما كانت بغداد دار السلام”.
و عبّر سيد عباس عن أسفه لإغلاق سينما الخيام قائلاً: “مع كل الأسف، تغلق سينما الخيام وباقي السينمات مثل سينما سميرا ميس وبابل وغيرها”، مؤكداً أنها كانت “متعة حقيقية”. وتابع نوري الربيعي قائلاً: “هذا حال جميع دور العرض منذ التسعينات لليوم”.
في هذا السياق، لا بد من طرح سؤال مهم: هل يمكن أن تكون هناك عودة لهذه السينمات التاريخية في العراق؟ البعض يرى أنه من الممكن إعادة إحياء هذه الأماكن عن طريق تحديثها وتحويلها إلى مراكز ثقافية حديثة، مجهزة بالتكنولوجيا الحديثة التي تجذب الأجيال الجديدة دون أن تفقد روحها القديمة. وفي المقابل، يبقى الكثيرون في حالة حزن على ما فقدوه، معتبرين أن ما يحدث هو مجرد دليل آخر على التدهور الثقافي الذي يعاني منه العراق في ظل الأزمات المتواصلة.
ورغم كل هذه التحديات، لا تزال هناك أصوات تطالب بالحفاظ على تراث السينما العراقية، معتبرة أن هذا التراث لا يمكن أن يندثر ببساطة.
في ظل هذا، يبقى الأمل في أن تأتي يومًا ما حلول تعيد للسينمات في العراق رونقها وتعيد لها مكانتها الثقافية والاجتماعية بين الأجيال القادمة.