الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
القره داغي: لو تم حفظ تراث الكرد لكان بقامة أعلى جبال كردستان

بواسطة azzaman

أصدر 54 مؤلفاً ونشر 600 بحثاً ونال جوائز عالمية ومحلية

القره داغي: لو تم حفظ تراث الكرد لكان بقامة أعلى جبال كردستان

باسل الخطيب

 

غُرست في نفسه محبة القرآن الكريم والتعلق به منذ الصغر، على عادة أهل قريته ذلك الزمان، الذين كانوا يكنون حباً وتقديراً جماً للكتاب المبين.

ولد عام 1949 في قرية تكية بناحية قره داغ بمحافظة السليمانية في إقليم كردستان، وفي سن الخامسة لمس عملياً ذلك الحب والتقدير، عندما كان يذهب إلى السيدة التقية خديجة (داده خه جي) التي كانت تعلم أطفال القرية القرآن الكريم، متأبطاً ورقة مقوى خطت عليها عبارة (يا الله، يا فتاح، يا رزاق) ثم حروف الهجاء، إذ كان كل من يصادفهم من الأشخاص في طريقه ينتصبون قياماً ويضعون أياديهم على رؤوسهم إجلالاً للعبارة المكتوبة على تلك الورقة، ولا يجلس أحد منهم حتى يتوارى عن أنظارهم.

عاشق للقرآن

وقد ولد ذلك لديه حالة من الهيام بالقرآن الكريم والمعارف بتشجيع من عائلته، وفي ذلك يذكر أنه عندما سقط من سطح دارهم ذات يوم وكسرت يده اليسرى من الرسغ، طلبت والدته من الخبير بتجبير الكسور (المجبرجي) ألا يجبرها جيداً لأنه إن تمتع بيدين سالمتين قويتين قد لا يميل للتعلم وينشغل بأمور كسب لقمة العيش!!! لأن أهل القرية كانوا يرون العزة في تعليم أبنائهم، حتى أنهم كانوا يعيبون على الأسر التي لا يكون فيها متعلماً أو خاتماً للقرآن الكريم.

هكذا نشأ وترعرع على حب العلم ونشر المعرفة، ليواصل تعليمه في بغداد، ويتخرج من كلية الإمام الأعظم، ويواصل نهل العلم عن علماء أجلاء، حتى نال الإجازة العلمية من مفتي العراق الأول، العلامة الشيخ عبد الكريم المدرس (1901- 2005)، وإجازة قراء القرآن الكريم بقراءتين من العلامة الشيخ عبد القادر الخطيب (1896- 1969)، وإجازة في رواية الحديث الشريف من العالم الأزهري د. محمد السيد ندا.إنه الشيخ الكردي المحقق محمد علي قره داغي، الذي كرس حياته للتعريف بأنجم لامعة في سماء العلم والأدب الإسلاميين، لاسيما التراث الأدبي الإسلامي الكردي، وسيرة وتراجم علماء الكرد والكشف عن آثارهم ومؤلفاتهم.. فأصدر 54 مؤلفاً تضم 80 مجلداً، ونشر أكثر من 600 بحث أو مقال باللغتين العربية أو الكردية.. ومن آخر ما أصدره الجزء الأول من كتابه “تاريخ القرآن الكريم في كردستان”، عن “مركز كوردستان للفن والثقافة”، الذي يقع بـ 448 صفحة من القطع الكبير.. وتضمن التعريف بـ121 مصحفاً تراثياً مخطوطاً، فضلاً عن أسماء 16 من المفسرين الكرد للقرآن الكريم، و66 عنواناً للتفاسير، مع الإشارة لبراعة قراء القرآن الكرد.. وقد اعتمد المؤلف في ترتيب عرض المصاحف على التسلسل التاريخي والترتيب الزمني لما عليها من تفاصيل، دون التطرق للتفاصيل الفنية من زخرفة وفن كتابة وغيرها.

تاريخ مهمل

يقول الشيخ القره داغي، إن القرآن الكريم «يحظى بأهمية كبرى في كردستان لكن تاريخه لم يخدم بمستوى تلك الأهمية وذلك الحب والتقدير»، ويشير إلى أن تاريخ العلماء والأدباء الكرد «لم يوثق بالمستوى المطلوب».

ويضيف أن أقدم مخطوطة في كردستان “تعود للقرن الثالث الهجري بالتزامن مع وصول جيش الفتح الإسلامي للمنطقة”، ويلفت إلى أن جانباً كبيراً من تاريخ الكرد “ما يزال مهملاً”.

ويرى القره داغي، أن التراث الكردي “لو كان موجوداً ومحفوظاً لكان في قامة أعلى جبال كردستان”، ويدلل على ذلك بأن فهارس المخطوطات التي اطلع عليها أو سمع بها في بريطانيا وألمانيا وتركيا والسعودية ومصر وإيران وغيرها من البلدان “تزخر بإنجازات علماء كردستان ومفكريها وخطاطيها”.ويوضح أن ذلك “دفعني لتبني مشروع كنوز الكرد في دور المخطوطات العالمية الذي يتناول مخطوطات العلماء الكرد المنتشرة في أنحاء العالم”، ويبين أن المشروع “تمخض عن إصدار خمسة مجلدات حتى الآن”.

مشاريع تراثية رائدة

وينبري الشيخ المحقق أيضاً لتنفيذ مشروع آخر عن إحياء تاريخ العلماء الكرد الذين لم يذكروا في المصادر التاريخية، أو وردت شذرات نادرة عنهم، من خلال مخطوطاتهم، إذ أصدر في إطاره عشرة مجلدات من أصل 12 حتى الآن.كما يواصل تنفيذ مشروع “كشكول التراث الأدبي الكردي” الذي يجمع فيه ما ورد في المخطوطات بشأن الشعراء الكرد، وقد أصدر منه ثمانية أجزاء حتى الآن.ويعمل الشيخ القره داغي حالياً على تأليف الجزء الثاني من كتابه القيم “تاريخ القرآن الكريم في كردستان”، وينوي إصدار طبعة مزيدة ومنقحه من كتابه الموسوم “مكتوبات مولانا خالد النقشبندي”، الذي يتناول بعض رسائل النقشبندي إلى مريديه وردوده على رسائلهم، الذي صدر من قبل باللغتين العربية والفارسية بواقع 700 صفحة.

تاريخ القرآن في كردستان

وقدر تعلق الأمر بكتاب «تاريخ القرآن الكريم في كردستان»، يقول الشيخ المحقق، إن الكتاب «محاولة للتعريف بالكرد الذين استقبلوا النسخ الأولى من القرآن الكريم التي أرسلها الخليفة الراشدي عثمان بن عفان (رض) إلى مختلف البلاد وكم هو عدد المصاحف التي كتبت أول الأمر في كردستان وماذا حل بها»، ويستدرك برغم أنها أسئلة «تبقى معلقة لعدم وجود مراكز متخصصة تتولى جمع تلك المصاحف المخطوطة وحفظها في مكان واحد من جراء تشتت الشعب الكردي وما تعرض له من حوادث وكوارث على مر الزمن».

ويوضح أنه “يقصد بمصاحف كردستان أو المصحف الكردستاني تلك التي كتبها خطاط كردي أو كتبت خصيصاً لأمير أو شخص كردي ويشمل ذلك المصاحف التي أخرجت من كردستان وتحمل الهوية الكردية أو التي وقفت من قبل أشخاص كرد على أماكن أو مدارس أو مساجد حتى لو كانت من خارج جغرافية كردستان (تشمل المناطق الكردية في إيران، تركيا، العراق وسوريا) والمصاحف التي كتبت خارج كردستان من قبل خطاطين كرد ثم نقلت بجهود كردية إلى كردستان واستقرت في مدارسها أو مساجدها أو مكتباتها”، ويبين أن الكتاب “تضمن نماذج من المصاحف الموجودة في كردستان مما قدمه الخطاطون الكرد للقرآن الكريم خلال التاريخ الإسلامي وتوضيح بعض الأدلة على ضياع مصاحف لا تعد ولا تحصى لا يعلم عددها إلا الله لاسيما أن المصاحف لم تكن مطبوعة وأن المصدر الوحيد لقراءة القرآن الكريم وابتغاء الأجر والثواب من ورائها كان المصاحف المخطوطة التي لم تكن بالكثرة المعهودة حالياً وقد تعرض الكثير منها للتلف وباتت غير صالحة للقراءة نتيجة كثرة التداول أو سوء الحفظ والخزن أو من جراء العوامل الطبيعية”.ويذكر المؤلف، أنه لاحظ أن “أعمار أغلب المصاحف المخطوطة الموجودة حالياً لدى بعض الأسر أو المكتبات لا يتجاوز 400 عام إلا ما ندر وأن المصاحف حينها ما كانت تخط لتحفظ في المخازن والأدراج بل كانت تكتب لتكون وسيلة للتعلم والحفظ ونشر الإسلام ابتغاءً للأجر والثواب إذ كان الواقفون للمصاحف يشترطون ألا يحبس أو يمنع أحد من القراءة فيها”، ويتابع وهكذا كانت المصاحف “تتداول وتنقل من يد لأخرى ما جعلها عرضة للتلف على مدار السنين والأعوام مهما كانت محكمة الصنع وهذا كان السبب الرئيس في جعل المصاحف المخطوطة عرضة للتفكك والتضعضع حتى أصبحت غير صالحة للقراءة أو الاستفادة منها وحين ذلك كان أصحابها يعمدون إلى جمع المصاحف المتهالكة أو التي من غير الممكن الاستفادة منها والتخلص منها بنحو يحافظ على قدسيتها إما بدفنها في المقابر أو وضعها في الكهوف أو إلقائها في الأنهر من دون أن يفكر أحد بتدوين أو جمع ما في خواتيمها من ذكريات وملاحظات وأسماء النساخ ومكانهم وتواريخ نسخها فضلاً عن الصيغ الوقفية الجميلة التي وقف بها الأمراء والمتنفذون وسواهم ممن أرادوا ابتغاء الأجر والثواب كصدقات جارية لهم على مر الزمن”.وهكذا وجد الشيخ المحقق محمد علي قره داغي، أن السبيل الوحيد أمامه كان “جمع العينات النادرة المتبقية من تلك المصاحف وهي كثيرة إذ وجد كماً كبيراً من النماذج التي تصلح للبناء عليها لكتابة تاريخ المصاحف في كردستان على أن يتم الإضافة عليها كلما سنحت الفرصة وتوافرت نماذج أخرى”، لكنه يعرب عن أسفه لأن معظم المصاحف المخطوطة الباقية في كردستان “لم تجمع بعد في مكان واحد بل وحتى لا يمكن معرفة مكان الكثير منها والوصول إليها لعدم وجود مراكز متخصصة تتكفل بجمع تلك المصاحف وحفظها في مكان واحد نتيجة تشتت الشعب الكردي وتفرقه وعدم تمكن أبنائه ومثقفيه من إدارة شؤونهم والعناية بموروثهم الثقافي والحضاري وتفرق ما نجا من تلك المصاحف من الكوارث والعوامل الطبيعية على الأسر العلمية والمكتبات الخاصة وتمسك من بحوزتهم نسخ بها وعدم السماح لأحد بالاطلاع عليها بل وعدم البوح بأي معلومات عنها فضلاً عن تباعد المناطق واختلاف اللهجات والمذاهب وإخراج عدد لا بأس به من تلك المصاحف إلى خارج كردستان”.

الخطاطون جنود مجهولون

ويمضي الشيخ القره داغي قائلاً إن القرن العاشر وما يله «تميزت بأنها شهدت ضياع أو تلف عدد أقل من المصاحف المخطوطة مقارنة بما سبقها وأن معظم ما حصل عليه من مصاحف أو صورها كان من كردستان إيران كما أنه اطلع على مصاحف موجودة في مكتبات بلاد الحرمين الشريفين (المملكة العربية السعودية) وسمع عن أخرى موجودة في إسرائيل دون أن يعني ذلك خلو باقي مناطق كردستان من وجود مصاحف نفيسة لخطاطين كرد».ولم يغفل المؤلف ذكر أسماء مجموعة من الخطاطين، الذين يسميهم بـ”الجنود المجهولين”، وعدد المصاحف التي خطوها، وهم كلاً من عمر بن محمود الأيوبي، الذي خط أكثر من مائة مصحف.. الشيخ عبد الله ابن الشيخ يوسف.. الملا نذير الطويلي.. محمد الجديد.. الشيخ محمد الشيخ يوسف. علماً أن لكل واحد منهم أكثر من مصحف لم يتسن معرفة عددها بالتحديد، لأسباب عدة منها التلف والضياع، أو إهمال الخطاطين أنفسهم توثيق أعمالهم ابتغاءً للأجر والثواب.  

أعلام كرد فسروا القرآن

ويؤكد الشيخ المحقق محمد علي القره داغي، على أن حب الكرد للقرآن الكريم «لم يقتصر على كتابة المصحف واستنساخه ونشره حسب بل أنهم سعوا أيضاً إلى تفسير القرآن وشرح آياته البينات وبيان إعجازه وتوضيح أساليبه البلاغية»، وينوه إلى أن المفسرين الكرد «شرحوا القرآن بأساليب مختلفة انتشرت في شتى البلدان الإسلامية والكثير منها لم ير النور برغم الرسائل أو الأطاريح العلمية التي تناولت بعضها مؤخراً».

ويورد أن الكرد “برعوا أيضاً في تجويد القرآن الكريم”، ويلفت إلى أن من بين أولئك القراء من “برع وكان يقرأ القرآن ويعلمه للناس بالقراءات العشر فضلاً عن تأليف مؤلفات طار بها الركبان إلى شتى البلاد الإسلامية وما تزال تدرس إلى يومنا الحاضر”.

رسالة وجوائز  

ويتمنى الشيخ المحقق محمد علي قره داغي، من المعنيين «الاهتمام بالمخطوطات وآثار العلماء لأنهم يمثلون أركان الحضارة»، ويدعو إلى «استحداث جهة رسمية كردية تعنى بجمع المخطوطات والمحافظة عليها».

وتكللت مسيرة الشيخ القره داغي، بالحصول على عدة جوائز محلية أو عالمية، منها جائزة اليونسكو لأفضل باحث عالمي بالأدب الإسلامي عام 2017، الجائزة الأولى من مؤسسة الفارابي العالمية لأفضل باحث بالأدب الإسلامي عام 2017، تكريم من قبل الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني، وآخر من محافظة كردستان الإيرانية كأحد مشاهير الكرد، وآخر من جامعة كردستان بمدينة سنندج الإيرانية، تكريم من قبل الأكاديمية الكردية ومن جامعة سوران.

 

 نشرت في مجلة كردستان بالعربي (العدد 6) تشرين الاول / أكتوبر 2024.


مشاهدات 52
أضيف 2024/12/28 - 1:04 AM
آخر تحديث 2024/12/28 - 4:40 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 318 الشهر 12315 الكلي 10068410
الوقت الآن
السبت 2024/12/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير