بعد فشل الإسلامويين..هل يتلقفها العلمانويون؟ (5)
منقذ داغر
نحو مشروع سياسي جديد
في مقالي الأخير ضمن هذه السلسلة أجيب بضرسٍ قاطع عن السؤال الذي جعلته عنواناً لها: سيفشل العلمانويون في أن يستثمروا فرصة الفراغ السياسي الذي تعاني منه المنطقة حالياً ويكونوا بديلاً مقبولاً للأسلامويين بسنتهم وشيعتهم. وقبل إيضاح لماذا في اعتقادي أنهم سيفشلون لا بد من ملاحظة أن ما تمر به المنطقة التي نعيش فيها حالياً مشابه للمرحلة السياسية التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين حيث هناك فراغ يُراد ملؤه،وهناك خرائط يعاد رسمها. فبسقوط نظام الأسد سقطت دكتاتورية أخرى تاركةً فراغاً ليس في سوريا فقط بل في منطقة أوسع عانت من ذلك الفراغ منذ أحتلال العراق وسقوط نظام صدام. وأذا أخذنا بنظر الأعتبار ما يحصل في اليمن و ليبيا والسودان من جهة، والحالة غير المستقرة في تونس، والمشاكل المحتملة لما بعد العدوان على غزة سواء في فلسطين المحتلة ،أو ما هو أبعد منها من مشروع (إسرائيل الكبرى) وتركيا العظمى وإيران المقاومة فأننا بلا شك أزاء مرحلة سيّالة (في طور التشكل) من توازن القوى الأقليمية والدولية بخاصة وأن اللاعب الأكبر(أمريكا) مُقدِم على أدارة (صفقاتية) جديدة لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تذهب اليه حينما تقدّر أن هناك صفقة مفيدة مباشرة Good deal يمكن عقدها بغض النظر عن نتائجها المستقبلية لشعوب المنطقة أو لأمريكا ذاتها.هذا تماماً ما فعلاه السياسي البريطاني مارك سايكس والدبلوماسي الفرنسي فرانسوا بيكو عندما عقدا صفقة رسما بموجبها خريطة الشرق الأوسط التي نعرفها اليوم والتي لا زالت شعوب المنطقة تتحمل تبعات سلبياتها منذ ذلك الحين .ولعل ذات المفارقة التاريخية المؤلمة تتكرر مرة أخرى! فعرّاب صفقة سايكس-بيكو،وأقصد به السير سايكس كان نفسه عرّاب وعد بلفور في عام 1919 الذي منح الحق لإسرائيل بأقامة دولتها. ومن يدري الآن، فلعل عرّاب الصفقة الإقليمية المرتقبة (أمريكا) يمنح إسرائيل نفس الرخصة لإقامة مشروعها الأكبر(من النيل للفرات رغم سخافته وعدم واقعيته) وبالتالي يمنح الضوء الأخضر لإعادة رسم خريطة إسرائيل الناتنياهوية. شخصياً لا أستبعد منح العراب الترامبي لهذه الرخصة لإسرائيل لإحتلال أراضي عربية جديدة،على الأقل لتكون ورقة ضاغطة على أصحاب تلك الأراضي ليعقدوا الصفقة الإبراهيمية التطبيعية التي خطط لها ترامب سابقاً ورعاها. نعم، فالمتوقع هو قيام إسرائيل بالتمدد وتهديد حدود دول عربية يُراد منها أن تنضم للحلف أو الصفقة الأبراهيمية.
خيارات مفتوحة
قد يبدو أنني أبتعدت عن عنوان وغاية هذه السلسلة لكني وددت توضيح فكرة أن كل الأبواب والخيارات تبدو مفتوحة لملء الفراغ الأستراتيجي الحالي بلاعبين جدد بما فيهم العلمانويون رغم أني واثق تماماً من فشلهم في أستثمار الفرصة كما فشل القوميون والأمميون بعد الحرب العالمية الأولى،وكما فشل الإسلامويون بعد أحتلال العراق في 2003. أن من الواضح أن المنطقة تفتقد لأي خيار أو مشروع أستراتيجي واعد يمكن تبنيه بعد سقوط القومانية،والأممية،والأسلاموية . فخلال العقدين الماضيين كان هناك مشروعان متصارعان ومطلوب من شعوب المنطقة الأصطفاف مع أحدهما،دون التفكير بخيار ثالث. فأما أن نكون(ليبراليين،ديموقراطيين،غربيين،علمانيين ،تطبيعيين) أو نكون (مقاومين،ثوريين،أسلاميين، أيرانيين) . والطامة الكبرى هي أن كل مشروع من الأثنَين يأتي برزمة واحدة One Package وبدليل تعليمات واحد يجب تبنيه. فأما أن تكون مقاوِم أو تكون مطبِّع، وإما تكون علماني أو تكون أسلامي،وأما تكون ديموقراطي أو تكون أيراني،وهكذا من قوالب النمذجة التي أبتُلينا بها كشعوب. فكم كنت،وما زلت، أجد صعوبة مثلاً في أقناع البعض بأني عروبي،علماني،متدين،غير مطبِّع لكني معارض للنفوذ الإيراني، ورافض لكثير من القيم الأجتماعية الغربية،لكني أرفض أيضاً القيَم (الأسلامية) الماضوية !!
أؤمن أن هناك أمكانية لبروز مشروع سياسي وفكري جديد لا يرفض الأسلامية(رغم رفضه للأسلاموية) لكنه لا يتبناها،ولا يرفض العلمانية ، رغم رفضه العلمانوية ورفضه لتحويل مشروعها الفكري الى دين مقدس.
وتبدو الظروف مساعدة لتقبل هذا الأنموذج الفكري الجديد، لكن بشروط معينة تضمن تجنب أرتكاب نفس الأخطاء التي وقعت فيها المشاريع الأستراتيجية التي ذكرناها سابقاً.
1.يجب أولاً أيقاف التفكير التغالبي الصفري. بمعنى التفكير بعقلية الصراع والمغالبة بين العلمانيين والأسلاميين. فلا الأمة أو الشعوب تخلفت بسبب الدين،ولا هي تبلدت أو تفرنجت بسبب العلمانية. والبحث الحقيقي(لا المتحيز) يكشف أن التخلف والتبلّد هما نتاج مجموعة متفاعلة من العوامل بضمنها الفشل في فهم الدين فضلاً عن الفشل في فهم العلمانية. واضح ان الدين هو جزء أساس من تكوين شعوب المنطقة لا يمكن تجاوزه أو غض الطرف عنه.
لكن على الأسلاميين الأبتعاد أيضاً عن مشروعهم التاريخي الماضوي، والنظر للدين على أنه منظومة قيمية إيمانية اجتماعية وليست منظومة سياسية تشريعية. نحتاج لمشروع علماني مؤمن. مشروع لا يرى في الإسلام حلاً، بل يرى فيه شريكاً ممكناً. مشروع لا يرى في الكفر حلاً،بل يرى فيه خياراً شخصياً يمكن التعايش معه على أساس المواطنة وليس على أساس التكفير أو حتى المهادنة. مشروع لا يسعى لفصل الدين عن المجتمع والحياة،بل لحماية الدين والإيمان من السياسة. مشروع لا يجعل الدين إجبار بل خيار.
سيرورة تشاركية
2.عدم أدلجة المشروع. أي أن لا يكون فيه مكان للأسلاموية ،ولا للعلمانوية بل هو سيرورة تشاركية. بمعنى أن يكون نتاج تفاعل موقفي ظرفي يراعي أشتراطات العصر من جهة،وظروف الشعب(أي شعب) من جهة أخرى. أنه مشروع لا أنموذجي! أي لا يوجد قالب جاهز أو نهائي له بحيث يتم تبنيه كآيدلوجية دوغمائية أو دين مقدس لا يمكن المساس به.
3.عدم عولمة المشروع أو أقلمته.لقد أثبتت كل المشاريع والآيدلوجيات المعولمة أو العابرة للحدود فشلها. أن مادة أي مشروع سياسي هي المجتمع،ومحركها هو السلوك السياسي. وأن كل من السلوك والأجتماع البشري ظواهر أنسانية غير منمذجة ولا مقولبة وأنما نتاج تفاعل الأنسان والمجتمع مع بيئته. بالتالي فأن ما قد ينجح في أمريكا لا ينجح في العراق،وما ينجح في السعودية لا ينجح في تونس وهكذا. أن أي مشروع سياسي سيفشل أن تجاهل هذه الاشتراطات في عالمنا المعاصر. سيجادل البعض أن هناك مثلاً أنموذجاً تاريخياً ناجحاً يتمثل في دولة الخلافة الأسلامية. وبدون أن أدخل في معايير النجاح والفشل التي تم الحكم بها على ذلك الأنموذج فأني أقول: لو كان ناجحاً لماذا لم يستمر؟ ثم أسأل هل أن التاريخ فكرة وعبرة أم هو ألزام وأشتراط؟ فأن كان عِبرة فيمكن الاعتبار من النجاحات والفشل لكن لا يمكن تبنيها بسبب اختلاف الظروف. أما أن أردتموه إلزام واشتراط للنجاح فسيصبح حينذاك سجناً للأفكار علينا أن نعيش فيه وهذا خارج سياقات المنطق والعقل.
بأختصار فأن أي مشروع ممكن وواعد يجب( وليس ينبغي) أن لا يكون تغالبياً،ولا آيدلوجياً ولا معولماً. بهذه الطريقة يمكننا أن نسير نحو مشروع سياسي جديد.