همسات ساخنة .. ومضات هادئة
ملفات الفساد في العراق وصمة عار
لويس إقليمس
كثر الحديث في هذه المرحلة التعسة عن الفساد وملفاته التي بدت كأنّه لا حدود، بل لا نهاية لها في عراق ما بعد السقوط في 2003 من دون أن تشهد دور القضاء والأجهزة التنفيذية في الدولة العراقية وحكوماتها المتعاقبة معالجات صريحة أو متابعات صادقة أو إجراءات جادّة من جميع الجهات المعنية لإيقاف هذه الآفة التي نخرت جسم المجتمع العراقي واستفحلت في مؤسسات الدولة وسط تماهل وتجاهل وتغاضي حكوماتها المتعاقبة التي سارت على منوال سياسي عاهر بصيغة «طمطمْ لي وأطمطم لك، غطّي لي وأغطّي لك، أسندني وأسندك، إدعمني وأدعمك»، وما سواها من توافقات واتفاقات ومساومات وصفقات ووسائل ابتزاز. وبتنا لا نعرف متى سيكون لمثل هذا الحديث الأصمّ آذانٌ صاغية أو تقابلُه جهاتٌ فاعلة تسعى بل لها القدرة والإرادة والنية الصادقة للحدّ من آثاره التدميرية على الدولة والمجتمع وما بينهما من شعبٍ تائهٍ بائسٍ مخدَّر غارقٍ هو الآخر في سبات اللامبالاة أو في اللهاث وراء سراب وعودِ ساسة مؤدلجين حزبيًا أو زعامات سلطة احترفت صيغة التفنّن في غشّه في كل دورة انتخابية مشبوهة في التدخل والتوضيب والترتيب والخداع والضحك على عقول البسطاء المغشوشين بغطاء الحفاظ على مكاسب الدين والمذهب والطائفة والحزب والعقيدة وتقديس الأشخاص واعتمادهم رموزًا غير قابلة النقاش حول أفعالهم وتدخلاتهم وسياستهم غير المستجيبة في الولاء للوطن والشعب والصدق مع النفس والصالح العام. وهذا أشنع القبائح!
كلام مسيء
لقد اعتدنا أن نشهد للمسؤول في الدولة، زعيمًا سياسيًا بالصدفة كان أو ممثلًا مهرّجًا للشعب أو ناصحًا بالجهد الوطني الزائف بكونه لا يتورّعُ هو الآخر بتوجيه النقد اللاّذع والكلام المسيء ضدّ الفاسدين بل وباتهام النظراء الغرماء بالغرق في أشكال الفساد ناسيًا أو متناسيًا أو متجاهلاً أنه شريك لهؤلاء شاءَ أم أبى عندما تحين ساعة الحكم ويسكت عن الحق لأيّ سببٍ كان أو عندما ينتصبُ مناصرًا زميلَه وفقًا لمقولة «أنصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا». فالوقائع تشيرُ إلى تقاسم المكاسب وتشارك المغانم وتناصف الأرباح والنسب في المشاريع الوهمية منها والوضعية وفق نظام التحاصص الذي تسيرُ عليه البلاد منذ أكثر من عشرين عامًا بحسب لوائح الفوز في الانتخابات الشكلية التي تتحكم بها مافيات تابعة لأحزاب السلطة بالتشارك مع أجهزة فاسدة أخرى ساندة للدولة ومن أطرافٍ مؤثرة في القضاء والسلطات التنفيذية والتشريعية والرئاسية على حدٍّ سواء. ولنا في مثل هذه الحالات ما صدرَ مؤخرًا، وقبلَه مثيلٌ، بالعفو عن سراق ولصوص كبار تشاركوا مع فاسدين في الدولة العراقية وسرقوا ممتلكاتها وثرواتها بل وعبثوا بأموال الشعب من دون وازع أو ضمير. وأخيرًا تفاجأنا جميعًا بمَن صدرت بحقّهم أحكامٌ غيابية بهدف التغاضي عن جرائمهم أو سعيًا داهيًا لجرّ الشعب نحو النسيان بتخديره بمثل هذه الإجراءات غير الوافية وغير العادلة عبر محاولة إسدال الستار عن ظاهرة انتقاد الدولة وتوجيه اللوم والاتهام تجاه أجهزتها والكفّ عن المطالبة بملاحقة المتهمين أصوليًا أو بهدف إيقاف تتالي التذكير في وسائل الإعلام وغيرها بما تشهده البلاد والعباد من فساد مورسَ ومازالَ يمارَس بحق الشعب والدولة منذ استباحتها من قبل الغازي الأمريكي الأهوج وحلفائه الغربيين.
لقد عملت الحكومات المتعاقبة منذ السقوط في 2003 بنشاط واطّرادٍ بالعبث بمقدرات الدولة العراقية بأدوات الغازي الأمريكي الدخيلة الذين امتهنوا جريمة «تفليش» بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والوطنية والتعايشية وتفكيك جيشها العقائدي الوطني وإضعاف قيمها الوطنية الأصيلة وتغييب الحسّ الوطني الصحيح وكلّ ما له صلة بالوطن والمواطن والوطنية بمثل هذه الوسائل المفضوحة والمشبوهة والمدانة من الداخل والخارج على السواء عبر الولاء لما وراء الحدود باجتهاد حثيث ولهاثٍ فظيع بالولاء لكلّ ما هو وراء الحدود. وهذا ما يتحدث به المحلّلون الشرفاء والكتاب النزيهون وأرباب الصحافة الحقيقيون والمثقفون المفعمون بنعمة الوطن وغيرهم حتى من أولئك القريبين من مواقع ومصادر القرار أحيانًا، إلى حدّ وصف ما بلغ منه شكلُ هذا الفساد درجاتٍ عالية من القبح والمنكر والشك والعهر لحالة وصفه ب»وصمة عار». وكان آخرها قرار حكومي ياستقطاع ماليّ مجحف وغير مدروس من مرتبات الموظفين والمتقاعدين بحجة دعم ساحات المقاومة ومجتمعاتها التي لا ناقة للعراق فيها ولا جمل. فهل أتعسُ من هذا الوصف الهادر في معناه ومغزاه وفي تأثيره على واقع الحياة في البلد وعلى مستقبل الأجيال التي تجد نفسها غارقة في دياجير العهر السياسي لحدّ الاختناق؟
ملفات فساد
حكومة السوداني وجائحة الفساد
منذ قدوم حكومة السيد «السوداني» قبل عامين من الآن، تزايدت ملفات الفساد وتنوعت وتفرّعت وترعرعت شخوصُها وتعددت منابعُها وتجاوزت مقاصدُها حدودَ المعقول، ولا مجال لذكر تعدادها واشكالها ومروّجيها وأبطالها. فقد شخّصها الشارع العراقي وحكومتُه في الداخل كما وصمها أهلُ الخارج ومنتقدو المنظومة السياسية المحاصصاتية تفصيليًا في بعض الأحيان. كما عرّفت بهم الدولة وحدّدتهم أجهزتُها وحتى بعضُ ساستِها غير الراضين عمّا يجري لدرجة تصريح رئيس الحكومة الحالي بوصف ما يجري من عمليات فساد وإفساد بكونه «جائحة» وإعلانه نيّتَه القضاء عليها بسبب استفحالها منذ تسنّمه رئاسة مجلس الوزراء قبل أكثر من عامين ضمن خيارٍ جدليّ مبين لساسة البلاد، وكان آخرها حين استضافته في البرلمان يوم أمس. وليس غريبًا أن يصطدم هو الآخر وبعضٌ من فريقِه المقرَّب من تداعيات تتالي فضح ملفات قديمة وأخرى في طريقها إلى الظهور عبر حرب التسريبات الفاضحة الأخيرة التي كادت تقصم ظهر حكومته وتُرعبُ فاعليها ورعاتها وداعميها والمراهنين على بقائها على السواء بعد تزايد الخصامات والصراعات والتخوينات وفضائح تقاسم المكاسب والمغانم والتحاصص ونسبها المعهودة مقابل العقود والمشاريع، وهميةً كانت أم هزيلةً على الأرض، بحيث لم ينجُ من تواصيفها المشبوهة حتى رئيس الحكومة نفسُه. وهذا ممّا زاد من حدّة التوترات بين الأطراف المقصودة بسببها بعد أن كبرت واتسعت دائرتُها لتطاله شخصيًا والمقرَّبين من دائرته. فهذه الفعلةُ الأخيرة يبدو أنْ لا نهاية لها طالما الصراع السياسي قائم وسياسةُ كسر الظهور متنامية ووسائل ليّ الأذرع سارية والنية بالحدّ من تنامي تأثير وشهرة هذا الشخص أكثر من سواه مكشوفة بحيث أصبح يحسبُ له بعضُ الساسة والزعامات التقليدية ألفَ حسابٍ وحساب في مواجهة مكاسبهم وديمومة بقائهم بسبب الخشية من احتمالية اهتزاز تأثيرهم بفضل ما ناله شخصيًا من قبولٍ شعبيّ ملحوظٍ وثقة فاقت الحدود في النية والإرادة لديه داخليًا وخارجيًا. ومع إبدائه بعض الامتعاض أحيانًا ممّا يجري علنيًا ورغمًا عن إرادته وتوجهاته، إلاّ أنّ المواطن البسيط والشارع باتوا يدركون مدى الحراجة في بعض مواقفه الوطنية لكونه مكبَّل اليدين حيال ما يجري. وهذا ممّا وضعه في دائرة الترصّد والهاجس والحيطة والحذر من منتقديه الحادّين سيوفَه خوفًا من صعود نجمه وتنامي تفوقه على مَن جاء به ليكون موظفًا بدرجة خاصة لديهم في إدارة البلاد على وفق هواهم وتوجهاتهم غير الوطنية وغير المقبولة لدى معظم شرائح المجتمع العراقي إلاّ من فئة قليلة الصدق والضمير وكثيرة الكذب والنفاق. فقد لوحظ منه عزمُ النية باتجاه بناء دولة على أسس وطنية وغير دينية أو طائفية أو محاصصاتية. كما عُرف عنه بعضُ هذا وذاك قبل توليه السلطة التنفيذية الأولى حينما كان نائبًا عن الشعب أو متوليًا مناصبَ تنفيذية في الحكومات السابقة. فهل يخيب ظنُّ العراقيين والعالم به؟؟؟
لقد تعهد السيد «السوداني» منذ توليه رئاسة مجلس الوزراء كموظفٍ عالي المنصب لدى الإطار التنسيقي وأحزاب السلطة بمحاربة كلّ أشكال هذه الجائحة. وكانت تصريحاتُه هذه مثار تقدير واحترام وتأييد من شرائح الشعب ومثقفي البلاد والمتنورين الوطنيين ممّن رأوا فيه الطيبة والنية الحسنة والإرادة الصالحة في قيادة دفّة البلاد نحو الإشراقة والاستقرار والاستدامة إلاّ ممَّن أتوا به بمثابة رهان «حصان طروادة» لتسيير شؤون البلاد والعباد. فإذا كانت الحكومة جادّة كما تعهدت منذ انطلاقتها ولها برنامج واضح لمعالجة ملفات الفساد الكبيرة والقضاء على أدواته ومَن يغطّي له وعلى الفاسدين من زعامات سياسية وأدوات تنفيذية في الدولة والحكومة وأجهزتها، لماذا لم يتم اتخاذ إجراءات قضائية وتنفيذية عادلة ورادعة بحقهم إذا كان تعويلُ الجميع على نزاهة القضاء وأجهزته التنفيذية؟ ولماذا هذا التهاون مع أبطال الملفات الفاسدة ومحاولة البعض من ممثلي الشعب وزعامات السلطة تغطيتَهم الحثيثة على بطولات الفاسدين واللصوص والسعي لاستغلال استخراج قانون للعفو عن المجرمين والإرهابيين خلطًا للأوراق؟ ولماذا يجري تهريب المتهمين ليلاً ونهارًا جهارًا بغطاءٍ سياسيّ وحكوميّ وقضائيّ واضح بالرغم من تأكيد مبرّزات الإدانة والتجريم ووضوح وسائلها وأدواتها وشخوصها؟ ولماذا الخشية المتواضعة من تحديد الأسماء ومَن يقف وراءَهم من أجهزة تنفيذية وحكومية وقضائية وسياسية وحزبية، ضاربين عرضَ الحائط مطالبات الشعب المغلوب على أمره والبائس في معيشته والقاصر في تفكيره والنائم في سباتِه المقزِّز والمصفِّق لجلاّديه والقابل بأفعال سارقيه والفاسدين في وطنه ومدنه وبلداته وقراه ومؤسساته... ووووو؟
نقولها بصريح العبارة: وسط تفاعل فئاتٍ كثيرة من الشعب العراقي مع توجهات الجهاز القضائي المعوَّل عليه أكثر من غيره، بالرغم من ضحالة بعضها وانتقاد غيرها، وفي حالة تراخي حبل هذا الجهاز استجابةً لميول أطرافٍ في المنظومة السياسية وشخوصٍ وضغوطٍ من أحزاب السلطة.
فذلك سيفاقمُ ما بلغهُ الأمن المجتمعي من تهديد وعدم استقرار وانفلات أمور أكثر ممّا هي عليه منذ سنوات. وهنا تقع على مسؤولية هذا الجهاز حسنُ التفاعل أكثر من ذي قبل فيما يخصّ اقتناص الفرص لفضح ما تقوم به مافيات الفساد من أفعال بتفعيل طرق بديلة ومؤثرة وفاعلة لكشف الفاسدين دون خوفٍ أو تردّد أو مجاملة أو تراخي أو تماهي بعد وصف ملفاتها بال»عار» على البلاد والشعب والمنظومة السياسية على حدٍّ سواء. فما حصل من تسريبات أخيرة مثلاً من شأنه أن يقلب الطاولة على حُماة جائحة الفساد ومَن يغطّي على الفاسدين ويتقاسم معهم المغانم في وضح النهار. وهذا ما سيُنعش التفاعل مع هذا الجهاز المفترض كونه حاميًا للوحدة الوطنية والتراب والأرض والبشر والشجر والحجر. وهو ذاتُه سيعزّزُ الاستقرار ويعيدُ الوطن وأهلَه إلى دارة المواطنة الصحيحة والانتماء إليه دون غيره وترك كلّ الولاءات الفرعية التي أنهكت الأرض والحرث وعطّلت الضمير والإرادة والنية الحسنة. فكما يبدو جليًا، سوء الإدارة وفقدان الإرادة وغياب النوايا الحسنة لدى المنظومة السياسية القائمة هو أساس المشكلة والمصائب والنكبات. فمتى نشعر بقيمنا الإنسانية والوطنية العليا سيدةً للحياة في الشارع وفي المدرسة والدائرة والعمل وأيضًا في سياستنا الخارجية والاستراتيجية؟