واقع مؤلم وتجربة إنسانية.. مهنة الطب بين غياب الضمير والتجارة بآلام المرضى
خونچه صباح أَحمد
لا شك أن مهنة الطب كانت ولا تزال تُعد من أعظم المهن الإنسانية التي عرفتها البشرية، فهي تجسد القيم الإنسانية النبيلة كالرحمة والتضحية، وتضع صحة الإنسان وراحته في المقام الأول، مما يجعلها رمزًا للإنسانية ورسالة أخلاقية سامية تهدف إلى تخفيف معاناة المرضى وخدمتهم دون تمييز، وينبغي الإشادة بالجهود الحثيثة التي يبذلها العديد من الأطباء المخلصين الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية تخفيف آلام المرضى مستندين إلى علمهم وخبرتهم وضميرهم الحي، كما أن هناك العديد من المستشفيات الأهلية التي تسعى بجد إلى تقديم خدمات طبية متميزة تراعي احتياجات المرضى، وتحافظ على معايير عالية من الجودة والإنسانية، ومع ذلك؛ فإنّ هذه المهنة التي حظيت على مر العصور بالاحترام والتقدير، بدأت تواجه تحديات كبيرة تحت تأثير الأنظمة الصحية الحديثة والعولمة والضغوط الاقتصادية، فقد شهد العالم مؤخرًا تصاعدًا في حالات غياب الضمير الطبي، مع انحراف بعض الممارسات نحو اعتبار المرضى وسيلة لتحقيق الربح المادي- سلعة - بدلاً من التركيز على تقديم الرعاية الصحية اللازمة، هذه الظاهرة تستدعي وقفة نقدية جادة.
التزام اخلاقي
فمنذ نشأتها، ارتبطت مهنة الطب بالالتزام الأخلاقي الذي يؤكد على وضع مصلحة المريض فوق أي اعتبار آخر، غير أن الواقع الحالي يعكس في بعض الأحيان تراجعًا لهذه القيم أمام المصالح الاقتصادية، حيث أدت الضغوط التجارية والخصخصة المتزايدة للقطاع الصحي إلى تحول بعض المستشفيات والعيادات إلى مؤسسات تسعى لتحقيق الأرباح المالية بالدرجة الأولى.
وفي هذا السياق، تبرز بعض من المستشفيات الأهلية التي أصبحت تمثل نموذجًا واضحًا لتجارية القطاع الصحي، حيث غالبًا ما تكون الأولوية لتحقيق الأرباح على حساب تقديم خدمات صحية إنسانية، إذ يتم زيادة عدد الفحوصات والإجراءات الطبية بغض النظر عن ضرورتها، مما يؤدي إلى استنزاف المرضى ماليًا، فيضطرون إلى دفع مبالغ باهظة مقابل خدمات يمكن توفيرها بتكاليف أقل في القطاع العام.، كما أن قضاء ليلة واحدة في العناية المركزة في بعض المستشفيات الأهلية يُقدّر بخمسمائة ألف دينار، وهي تكلفة تثقل كاهل ذوي المرضى. ومع ذلك، فإن هذا المبلغ الكبير لا يضمن دائمًا جدوى أو استفادة حقيقية في علاج المريض، مما يثير تساؤلات جدية حول جودة الخدمات المقدمة ومدى الالتزام بالهدف الأساسي للرعاية الصحية، وربما تلك المبالغ التي تُفرض لا تتناسب مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الكثير من الناس، في حين أن المرضى يتوجهون إلى المستشفيات بحثًا عن العلاج والأمل، ليجدوا أنفسهم أمام فواتير طبية مرهقة قد تستنزف مدخراتهم أو تتركهم في مواجهة ديون طويلة الأمد.
وعلى الرغم من هذه التكاليف الباهظة، إلا أن النتيجة في العديد من الحالات تكون مخيبة للآمال، حيث يفقد الكثير من المرضى حياتهم، وقد يُفهم فشل الحالات الحرجة التي يصعب علاجها، لكن الواقع يشير إلى تكرار الأخطاء الطبية في بعض المستشفيات، مثل التشخيص غير الدقيق ووصف العلاجات غير المناسبة، مما يزيد من معاناة المرضى ويعرض حياتهم للخطر.
القصص المأساوية التي تتكرر في بعض المستشفيات الأهلية أصبحت شائعة لدرجة أنها تفقد الناس ثقتهم في مهنة الطب نفسها، من المؤسف أن المواطن البسيط، الذي يبحث عن الأمان الصحي، يتحول في كثير من الأحيان إلى ضحية لأطباء يغيب عنهم الضمير، وتركز اهتماماتهم فقط على جني الأموال واستنزاف المرضى، هذه الممارسات اللاإنسانية تعكس غيابًا واضحًا للقيم الأخلاقية، وتحول الطب من رسالة إنسانية إلى تجارة قائمة على استغلال الضعفاء.
التكاليف المُبالغ فيها لا تقف عند العلاج فقط، بل تمتد إلى جوانب أخرى مثل الفحوصات والتحاليل الطبية التي تُطلب أحيانًا بلا مبرر سوى زيادة الفاتورة، فكثيرًا ما يُنصح المرضى باستخدام أدوية غالية الثمن أو الخضوع لإجراءات جراحية ليست ضرورية، مما يثير الشكوك حول مدى شفافية هذه القرارات الطبية.
إن غياب الضمير الطبي لم يعد مجرد استثناء يطال حالات فردية، بل أصبح ظاهرة تؤثر في النظام الصحي في بعض المجتمعات، فالعلاقة بين الطبيب والمريض أصبحت يشوبها الشك، حيث يدفع المريض أحيانًا تكاليف باهظة، وتتحول المستشفيات من ملاذ آمن للمرضى إلى ساحات تجارية تسعى لتحقيق أرباح كبيرة على حساب الإنسان.
إن أكثر ما يُشعر الإنسان بالخيبة هو رؤية هذا التحول في الواقع، فحينما يدخل المريض المستشفى، يفترض أن يجد اهتمامًا نابعًا من إنسانية الطبيب ورغبته الصادقة في تقديم العون، لكن بدلاً من ذلك، يواجه نظامًا يبدو وكأنه وُضع لاستغلال ضعفه، فالفحوصات الزائدة، والتشخيصات غير الضرورية، والأدوية التي تُباع بأسعار خيالية، كل ذلك يشكل جزءًا من معادلة تسعى لتحقيق الربح على حساب الإنسان المريض
هذه الممارسات تتجاوز الجوانب الطبية لتؤثر نفسيًا على المرضى، فحينما يشعر المرضى بالخيانة من نظام يفترض أنه جاء ليخفف آلامهم، يعانون من آثار نفسية قد تكون أشد قسوة من المرض نفسه، تخيل مريضًا يكتشف أن كل الإجراءات التي خضع لها لم تكن سوى استنزاف لأمواله دون جدوى حقيقية، هذا ليس مجرد فشل طبي، بل هو جرح عميق في الثقة والكرامة الإنسانية.
وتأتي مشاعر اللوم والأسى تجاه تلك المستشفيات التي سمحت لهذه الممارسات أن تزدهر، وأيضًا تجاه الأطباء الذين يشاركون في هذه الأنشطة غير الأخلاقية، فإن الطبيب الذي يُفترض أن يكون أمينًا على حياة مرضاه يصبح في مثل هذه الحالات متواطئًا مع نظام استغلالي.
قد يكون اللوم أيضًا موجهًا إلى المجتمعات التي تقبل هذه الممارسات بصمت أو تتجاهلها، فغياب الرقابة الصارمة والقوانين التي تحمي المرضى يفتح المجال أمام التجاوزات، لذا يجب على المجتمع أن يتحمل مسؤولية حماية أفراده، سواء من خلال توعية المرضى بحقوقهم أو الضغط على الجهات المسؤولة لضمان وجود نظام صحي قائم على الأخلاق والشفافية.
مع الأسف، هذا هو الواقع الذي نشهده اليوم، حيث يجد الكثيرون أنفسهم مضطرين للجوء إلى المستشفيات الأهلية، على الرغم من التكاليف الباهظة التي تفرضها، بدلًا من أن تكون هذه المستشفيات ذات تكاليف معقولة وملاذًا للمرضى، أصبحت عبئًا إضافيًا عليهم، في ظل غياب واضح للمراعاة الإنسانية، وتغليب المكاسب المادية على رسالة الطب السامية التي تهدف إلى تخفيف الألم والمعاناة.
ناهيك عن التشخيص الطبي الذي كثيرًا ما يعجز بعض الأطباء في المستشفيات الأهلية عن تقديمه بدقة وفعالية، مما يؤدي إلى تفاقم معاناة المرضى بدلاً من تخفيفها، والطامة الكبرى تكمن في أن هذا القصور يدفع الكثير من الناس، رغم ظروفهم الصعبة، إلى السفر خارج البلاد بحثًا عن علاج أفضل وتشخيص أدق، ما يزيد من الأعباء المادية والنفسية عليهم وعلى عائلاتهم.
القيم النبيلة
وفي ظل هذا الواقع، يقف الإنسان حائرًا أمام التساؤل: كيف يمكن استعادة القيم النبيلة التي بنيت عليها مهنة الطب؟ من أين نبدأ الإصلاح؟ هل من النظام الصحي بأسره؟ أم من قلب الطبيب الذي عليه أن يتذكر دائمًا أن قسمه الطبي ليس مجرد كلمات، بل ميثاق شرف مع المرضى ومع ذاته، فإذا لم يتم مواجهة هذا الواقع المؤلم بإصلاحات جذرية وصارمة، فإن الخيبة ستظل تتكرر، واللوم سيظل يطاردنا جميعًا، ليس فقط لأن النظام الطبي قد فشل، بل لأننا، كمجتمع، سمحنا لهذا الفشل أن يستمر.
في النهاية، يجب أن نتذكر أن مهنة الطب ليست مجرد وسيلة لكسب العيش، بل هي رسالة إنسانية تهدف إلى حماية الحياة وصون كرامة الإنسان، غياب الضمير الطبي يحول هذه الرسالة إلى تجارة، ويجعل المريض ضحية لنظام صحي معيب وأطباء تخلوا عن إنسانيتهم، فاستعادة هذا الضمير مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأطباء، الحكومات، والمجتمع بأسره لضمان أن تظل مهنة الطب رمزًا للرحمة والعطاء.