( لاي- فاي ) الزمان (53)
شبكة إتصالات العقل البشري في جائزة نوبل لعام 2024
عبدالرضا سلمان حساني
إعلان الجائزة
أعلنتْ الأكاديمية الملَكيّة السويديّة للعلوم في شهر تشرين1(أكتوبر) 2024 عن منح جلئزة نوبل- الفيزياء لهذا العام الى عالِمين في بحوث علوم الحاسبات لتحقيقهما إكتشافات وإختراعات تأسيسيّة لتمكين التعلّم الآلي ( ماكنة تقدر على التعلّم) مع الشبكات العصبيّة الإصطناعيّة. وعلى مدى زمني لأكثر من أربعين عاماً، تركّز وتطوّر بحثهما في هذا المجال الذي يُعتبر أساس للذكاء الإصطناعي الذي يهيمن على جوانب الحياة بأكملها. ولكي ندرك مستوى هذا العمل العلمي، يجب أن نتذكّر أنّ معدّل عدد الخلايا العصبيّة الرئيسيّة في دماغ الإنسان هو 56 ألف مليون خلية متصلة مع بعضها. وبهذا العدد، إستطاع العالمان بناء برمجيات حاسوب جديدة لشبكة إتصالات بين هذه الخلايا بنقل الإشارات الكهربائيّة ( رسائل معلومات متنوعة بموجب وظيفتها التخصصية وأدائها.
خلاصة حقول هذه الإكتشافات التعلّم هو قدرة مبهرة للعقل البشري، نستطيع به التعرّف على الصور وتمييز الأصوات وإستعادة مايشابهها أو له علاقة بها في ذاكرةالماضي. إنّ بلايين الخلايا العصبية (نيورونات) تصل بعضها البعض (كما لو أنّها بأسلاك) لتثبت لنا القدرات الذهنيّة التي تشكّل مصدر إلهام لشبكات الذكاء الإصطناعي في العقل البشري. لقد إستخدم الفائزان بالجائزة مفاهيم فيزيائية من الميكانيك الإحصائي الكلاسيكي لتصميم شبكات إصطناعية تعمل كذاكرة مرتبطة في المخ البشري. لقد أُستخدمت هذه الشبكات الإصطناعية في بحوث علمية متقدمة متنوعة مثل فيزياء الجسيمات وعلم المواد وفيزياءالفلك. وكذلك أصبحت تطبيقات في حياتنا اليومية كالتعرّف على الوجوه وترجمة اللغات والتفاهم بها، بضمنها لقاء حبيبة أوحبيب، كلّها في هذه الشبكة العملاقة من الخلايا.وفي إطار تعلّم الماكنة، سيساعد هذا الإكتشاف على إتخاذ القرارات السريعة ومنها التشخيصات الطبية. إنّ المسؤولية الجماعية تدعو الى إستخدام مستقبلي آمن ومهني لهذا الإكتشاف وتحقيق الفائدة المثلى والعظمى في خدمة البشريّة لا الضرر بها. وهنا يؤكد أحد الفائزَين بالجائزة
( جيفري هنتون- بريطاني الأصل من كندا ) بأنّه يجب الإنتباه وتجنب سوء إستخدام هذه الإختراعات والذي يمكن أن يؤدي الى نتائج وخيمة بإعتبارها تساوي وتوازي الثورة الصناعية التي لانتجت البطالة بتطور الماكنة. تبرز المخاوف أيضاً من إحتمال تجاوز حدودها ذكاء الإنسان في الذكاء الإصطناعي ( كالروبوت مثلاً).ويُعتبر (جون هوپفيلد- أمريكي) هو أول من وضع اللبنات الأساسية لها، في العام 1982 وسُميت الشبكات بإسمه، وأوجد أسس أعتبار أي منظومة أو ماكنة بأنّها ذاكرة مرتبطة أو مصاحبة.
جواب قبل سؤال
مالذي يجعلك تقف وتفكر؟ ماذا ستفعل، إذا رأيتَ حفرة أمامك؟ فالمعلومة هنا تنتقل من العين، التي رأت الحفرة، الى خلايا عصبية في الدماغ ثم الى القدمين بسرعة، ثم تعود ليعطي الدماغ الأمر للقدمين بعرض الخطوة ومكانها للقفز وتجاوز الحفرة. وفي جواب جديد عن كيفيّة تصرّف حارس مرمى في مباراة كرة قدم حين تأتيه كرة ليمسكها. فهذه أيضاً إشارات من العين الى الدماغ ثم الى اليد لتوضع بسرعة في الحيّز المناسب والمطلوب أمام الكرة. إنّ جميع المعلومات عن الكرةمثل حجمها وسرعتها وإتجاهها تتحوّل الى إشارات كهربائية تنتقل بين خلايا الدماغ مثلما ينتقل التيار الكهربائي في سلك ليضيء مصباحاً. وبنفس الطريقة تعود الإشارة الكهربائية من الدماغ لليدين، وتُسمّى هذه الإشارة الكهربائية بجهد الفعل. إنّ جهد الفعل الكهربائي هو المتحكم بحركة الآيونات الى داخل وخارج الخلية العصبية وهو اللغة الرقمية للدماغ، مثل تفاهمنا بلغتنا. وإنّه يشبه فعل البطارية الجافة المستخدمة في أجهزة التحكم عن بعد في المنازل( جهد الفعل في الخليّة أقل بعشرين مرّة تقريباً من فولتية البطارية ذات 1.5 ڤولت-قيمة مطلقة).
وفي مثال لصورة ثالثة، هو إنكماش القدم حين يدوس الإنسان على مسمار مرمي في الطريق. وغالباً مايقوم الإنسان بردود أفعال وحركات فجائيّة حين يتعرّض أو يرى خطراً يداهمه ويهدده. بالتأكيد، فإنّ جهد الفعل ( دفقة العصب) هو المتحكم بإنتقاله في شبكة متشكلة من مليارات الخلايا العصبية أو النيورونات، كما أسلفنا. ففي حالة تجنّب المسمار وإنكماش القدم، فيتم، بعد العين والعصب البصري، عن طريق خلايا الحبل الشوكي التي ترسل إشارة الى القدمين بزمن يساوي أجزاء من الثانية.
ماهي النيورونات؟
في مناهج وضعتها لمقرر الفيزياء الطبية لفصلين دراسيين ودرّستُها لطلبة كلية طب الأسنان في الجامعة السورية الدولية الخاصة (2005-2008)، وكذلك هنا لطلبة الدراسات العليا/فيزياء-علوم/ جامعة بغداد، يُعرّف النيورون بأنّه خلية عصبية منفردة واحدة بتركيبه التشريحي المتكامل والقادر على أداء وظيفته بصحّة تامة. والنيورونات مجتمعة تشكّل الجهاز العصبي الذي يؤدي وظائفه في الدماغ، كما يجري في كتابتي الآن وحين يقرأ القُرّاء. .يوجد في طرف النيورون تركيب تفرّعات يستلم المعلومات من نيورون مجاور ، وتؤدي وظيفتها مجتمعة على شكل مُرسلات ومُستقبلات لتنتقل بالإشارات الكهربائية (جهد الفعل). يعمل غشاء الخلية على السماح بمرور نوع من الآيونات تماماً كنقطة السيطرة في المطارات أو البنايات ( كأنّ الآيونات التي لديها هويّة تعريفية هي التي تمر فقط).
عند إنخفاض فرق الجهد في النيورون الى قيم واطئة، فإنّ عبور الآيونات وزيادة تركيزها سيُعيد الطاقة وقيمة جهد فعلها لتستمر بالوظيفة، تماماً مثلما تنخفض (طاقة) أي بطارية ويُعاد شحنها بمجهز قدرة كهربائية.
العودة الى أمام
في الإطّلاع على مثل هذه العناوين العلمية المتقدمة، ترجع بنا الذاكرة الى منهجية وطبيعة عمل مؤسساتنا الصناعية والأكاديمية والبحثية في سنين قبل العام 2003. ونتذكّر ونذكر
أقسام البحث والتطوير في كل وزارة والتي تعمل وتتابع في أطر إختصاصاتها، وغالباً مايكون الوزير والوكيل والمدير العام في فريق العمل بسبب إختصاصه أو رغبته ليضيف خبراته الى حقل البحث والعاملين. وهنا لابد من الوصول بالذاكرة والإهتمام الى ندوة النهوض بالتعليم العالي في بداية سنين التسعينيات من القرن الماضي والتي وضع فصولها وقاد إدارة تنفيذها الأستاذ الدكتور همام عبدالخالق وزير التعليم العالي والبحث العلمي. وحين نريد معرفة التفاصيل، علينا أن ننظر الى شواهد المتحقق في ذاكرتنا والمسار وهو مايشبه فعل الذاكرة المرتبطة المشار إليها في أعلاه.
وهذا هو المقصود بالعودة الى أمام، أي أننا نرجع بالسنين
رقماً، ولكنّ الصورة كانت ضمن برنامج التطلّعات المنجزة أو المخطط لها نحو الأمام.
لقد شهدت سنين التسعينيات العديد من القرارات والقوانين التي تمس مسيرة التعليم العالي والبحث العلمي والتي كان بعضها ثماراً لنتائج ندوة النهوض
وتفاعل الجامعة مع المجتمع. وعلى سبيل المثال، لاالحصر، فقد صدر قانون رعاية العلماء رقم1 لسنة 1993، وتعليمات
تحديد الملاكات العلمية في دوائر الوزارات؛ وهي إختيار أقضل باحث علمي حقق نشر إنجازات علمية بموجب معايير علمية معتمدة عالمياً. وقد شهدت الجامعات في تلك السنين أيضاً، وضع معايير إختيار الأستاذ المتميز الأول وتنفيذها كل سنة، وهنا أتذكر إختيار أستاذنا الدكتور سامي عبدالمهدي المظفر كأستاذ متميز أول لسنوات متتالية
( وتواصلي مستمر مع أستاذي د.سامي أبي فراس منذ أكثر من خمسين عاماً في جامعة البصرة، حين كان عميداً لكلية العلوم وأنا طالب فيها).
ومن ثمار الندوة، نشأت آلية التعاون بين الجامعات والمؤسسات ومعايشة التدريسيين في الدوائر
والقطاعات العاملة أثناء العطلة الصيفية وتفرّغ الباحثين من المؤسسات للتدريس والإشراف على طلبة الدراسات العليا، حيث شهدت تطوراً وتوسعاً ملحوظين. وكذلك أُنشأت آلية جديدة بعنوان التعرض للملاكات العلمية، ومن مضامينها أن تختار الوزارة أساتذة
بسيرة علمية بارزة لحضور مناقشات وتقييم الإطروحة بشكل موازٍ وسري للحفاظ على مستوى ورصانة الدراسات العليا، وكان الإسم المتداول والشائع لهذه الآلية هو
( الكابس العلمي). ويوجد المزيد من الإنجازات التي تضمنتها الندوة وتفاعل الجامعات مع المجتمع بعد إستحداث العديد منها في المحافظات.
ماكنة تتعلّم
وأعود لأقول، إنّ ماكنة بولتزمان
( إعتماداً على الفيزياء الإحصائية الكلاسيكية) هي واحدة من مفردات جائزة نوبل المتحققة والتي بدأ تطويره قبل أكثر من أربعة عقود ، وبعض مافيها إستخلاص موضوع بأكمله عن طريق إشارة مختصرة جداً من مضمونه. فمثلاً، يمكن إستخلاص ومعرفة معزوفة موسيقية أو سمفونية كاملة بعزف مختصر بسيط جداً بآلة موسيقية منها، مع الحفاظ على أي محتوى دون إرباكه وتغيير معالم المضمون ومسار الإجراء والطلب في حلقة الذكاء الإصطناعي. وتعتمد الإحتمالات واللادقة والمعلومة التي يمكن أن تصطحب فوضى ويمكن أن تنتج معطيات مختلفة عمّا أريد منها. فمثلاً، يمكن أن تحدد الماكنة، للمثال الموسيقي في أعلاه آلات جديدة ونغمات لتُسمع معزوفة جديدة بتوزيع جديد فرضته الماكنة.
تلك هي بإختصار قراءة مبسّطة لمضمون الجائزة لهذا العام والتي بدأها الفائزان بها قبل أكثر من أربعين عاماً.
سطور الختام
غداً نفتح صفحة في ذلك الكتاب
يقرأها الجميع فرحين من جديد
عنوانها
ألوانها
ألحانها
عاشقة وعاشق من العراق
ليبدأ الحوار في العشق والحنين والعتاب والعناق
وتُفتح دون سائل أبواب
ويدخل الجموع حاملين وردة أوراقها
غلاف ذلك الكتاب
====
( پروفسور فيزياء الپلازما- عضو معهد الفيزياء في المملكة المتحدة).