التعداد إنموذجاً.. الصورة النمطية لأخذ البيانات من جهات حكومية
نعمة العبادي
تمثل اشكالية الثقة بين الشعوب والانظمة القضية الاعقد في ادبيات الحكم وآليات ممارسته، ويعود أصل العقدة في هذا الموضوع، الى واقع يؤكد، كون معظم الانظمة، لم تولد من رحم إرادة الشعوب، ولا تمثل توجهاتهم، بل هي، مسلطة عليهم، ومستغلة لهم، وإن التدابير الامنية، وجميع الفعاليات، تقوم بها الانظمة لصالحها ومن اجل دوام بقائها وحماية اوضاعها، وهذا الحال ركز حقيقة مستقرة في نفوس ووجدان معظم الناس: «إن اي سؤال او استفسار او طلب بيانات، هو بالجملة يصب في نفع النظام وصالحه، ومن المستبعد جدا، ان يكون له مردود ايجابي للمواطن، بل، غالب الظن، انه سوف يستخدم بالضد منه في يوم من الايام» .يختزن العراقيون ذاكرة سيئة في هذا المجال، فقد كانت معظم الانظمة (إن لم نقل جميعها) قبل عام 2003 مفروضة عليهم، وليست من اختيارهم، والانكى من ذلك، ان آخر اربعين سنة قبل سقوط النظام، كانت العلاقة بين النظام ومعظم ابناء الشعب، علاقة العدو اللدود بعدوه، وتبع ذلك، تعمق حالة عدم الثقة والخوف، وهكذا، صارت كل (ورقة) تطلب من المواطن ولو كانت مقدمة لجائزة مالية، هي نحو من التلصلص عليه، ورغبة في معرفة احواله وتفاصيله، والتي سيتم استخدامها بالضد منه (مؤكدا) في لحظة ما.
زوال نظام
فوبيا البيانات والاوراق المطبوعة والاسئلة المتعلقة بشؤون الشخص وتفاصيله، موجودة في الوجدان العراقي حتى عند الاشخاص في اعلى المسؤوليات، والمناصب، فضلا عن عامة الناس، والاحساس، بأن هذه البيانات سوف تستخدم بالضد من الشخص، يوما ما، هاجس يرافق الناس حتى بعد زوال النظام الدكتاتوري، وتبدل الاحوال، الامر، الذي جعل معظم البيانات التي تعتمد على اجوبة اصحابها (طوعا) غير دقيقة وليست مؤكدة، ويسري الحال حتى الى البيانات التي تستحصل من الموظف من قبل دائرته، إذا هناك مجال للتدليس على بعض الامور او اخفائها او تغيرها.وعلى الرغم من الاهمية الكبيرة، للبيانات التي قدمتها حالات تعداد السكان السابقة إلا انها انتج اخطاء ومخالفات كبيرة، لم يتم الوقوف عليها بشكل عملي، طيلة عمر الدولة العراقية، ومن اهمها البيانات غير الدقيقة لاعمار واسماء عدد غير قليل من الناس.
يعد التعداد السكاني المرتقب اجراءه يوم غد الاربعاء الموافق العشرين من شهر تشرين الثاني، استحقاقا وطنيا مهما، وخطوة في الاتجاه السليم، وضرورة تنموية، فمنذ عقود، لا توجد بيانات دقيقة عن العراق والعراقيين، وهناك جملة امور تتعلق بجميع تفاصيل الحياة، تحتاج الى بيانات دقيقة وصحيحة، ومع هذه الاهمية، ألاحظ على التعداد الامور الآتية:
1- على الرغم من كثرة الحديث عن التعداد خلال عدة حكومات، ومع وجود فرصة زمنية مناسبة سبقت إجراءه إلا ان هناك تقصير كبيرا جدا في التثقيف عليه، وتهيئة الوعي الشعبي له، وتصحيح الصورة النمطية عن خطورة البيانات المعطاة للدولة، فضلا عن معرفة المكاسب الواقعية والآثار المترتبة عليه، وعجبي من الجهات المعنية بالموضوع، انها، لم تبذل ولو ادنى جهد في هذا المجال، فأين الندوات والمؤتمرات والفعاليات، اين توظيف المؤسسات التعليمية، اين استثمار وسائل التواصل والمؤسسات الاعلامية، واين الاجوبة المناسبة لعشرات الاسئلة في اذهان الناس، واين المطمئنات المناسبة التي تحفز المجتمع على اعطاء البيانات بسخاء.
2- هناك بعض التفاصيل والبيانات التي تتضمنها الاستمارة والتي يمكن استحصالها بشكل ادق ألف مرة من التعداد وبشكل ايسر واضبط واكثر مسؤولية، وهي البيانات المتعلقة بالعمل والوظيفة وكذلك مقدار الراتب، فهذه التفاصيل من المفترض انها موجودة بشكل دقيق جدا، لدى كل وزارة ومؤسسة ودائرة حكومية، فضلا عن وزارة المالية والتخطيط، لذلك فإن اخذها من خلال التعداد امر غير دقيق، ولن يعطي الاجابة المناسبة التي يمكن الاعتماد عليها.
حالات حرجة
3- البيانات الحساسة المتعلقة ببعض الوظائف والمهن، وكذلك البيانات التي تتعلق ببعض الحالات الاجتماعية المحرجة او التي يغلب عليها طابع السر، لن تكون بيانات التعداد مفيدة في هذا المجال لانها ليست دقيقة.
4- عدد السيارات وبعض التفاصيل المتعلقة بالملكية، لا يمكن الاعتماد على الاجوبة الطوعية في التخطيط لها، وهي امور يفترض ان بياناتها مثبتة في جهات رسمية، مثل المرور والكمرك والجهات ذات العلاقة، وهي المعنية بعدها وإحصائها بشكل دقيق.
في تقديري، ان اهم ما ينبغي ان يجيب عليه التعداد السكاني، هو عدد الافراد في كل مدينة وحي وبيت، وتفاصيل اعمارهم وجنسهم، وكذلك عدد الابنية السكنية واماكن العمل، وهي القضية التي تمثل ركيزة مهمة وعلمية للكثير من فعاليات الدولة، وفي مقدمتها موضوع الانتخابات وعدد المقاعد، وتوزيع حصص الموازنة، فضلا عن الاستعداد لتوفير الحاجات والمستلزمات.
ومع اننا في الساعات الاخيرة الفاصلة قبل اجراء التعداد إلا ان هناك فرصة لتقديم المزيد من التطمينات التي تشجع الناس على الادلاء ببيانتهم بصدق ودقة، وكذلك للتشجيع على التعاون مع العاملين على الاحصاء.