يظن البعض من هواة السلطة، أن طريق الإصلاح يمر عبر الانتقادات الحادة للقوى الفاعلة في الدولة. ويؤمن أن رفع الشعارات التي تبشر بالخلاص من الأوضاع السيئة، هو الحل الوحيد للمشكلة. أي أن طريق الخلاص في رأيه هو الفوضى الإعلامية والأمنية، التي تربك الشارع، وتعطل الحياة.
من الواضح في هذا الأمر، وجود رغبة عارمة في الإمساك بزمام السلطة، عبر دغدغة مشاعر الجماهير، وإيهامها بإمكانية تغيير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، بمجرد الخروج إلى الشارع و إطلاق الهتافات المدوية فيه، ووصم من يتجنب مثل هذه الأفعال بأنه ضالع في مناهضة الإصلاح، مناصر للسياسات المناوئة له.
مثل هذا الأمر يحدث في بلداننا، التي يناصب مواطنوها الأجهزة الرسمية العداء، كلما وقع مكروه، أو حدث حادث، ويوجهون أصابع الاتهام، في كل صغيرة وكبيرة، ولا يجدون وسيلة للخروج من المأزق إلا باستبدال الوجوه، وتغيير السياسات، مع أن جل هذه البلدان تخلت عن نظام التخطيط المركزي، أو ما كان يطلق عليه اسم (الاشتراكية)، وأعلنت القطيعة معه، وحاولت الشروع في إرساء أسس نظام جديد يقوم على المبادرة الفردية، وتشجيع الاستثمارات المحلية والخارجية، أي وضع مفاصل الاقتصاد بأيدي رجال أعمال مفترضين، يشكلون القوة الصاعدة في المجتمع.
والواقع أن التغيير المنشود في البلدان التي تشهد تراجعاً اقتصادياً وسياسياً، يحتاج إلى منظومة فكرية قادرة على إيجاد وعي خلاق، ونشاط عقلي مستنير، ورؤية واضحة للتقدم، وليس بدعاً أن التقدم الاقتصادي في العالم، سبقته نهضة ثقافية وقيمية وعلمية، فلم تحدث الثورة الصناعية إلا بعد ظهور المفكرين العظام، الذين أرسوا أسس العقلانية في أوربا، ولم تنبثق الثورة الفرنسية إلا بعد أن استوعب المجتمع أفكار عصر الأنوار، بل إن الحضارة الإسلامية التي غمرت العالم في القرون الهجرية الأولى، لم تنطلق من عقالها إلا بعد ظهور الجامعات والمدارس وحلقات الرأي في الحواضر الكبرى.
إن الإصلاح الذي يروق للبعض أن يتزين به، أو يخرج على الملأ متلفعاً بردائه، لا يتحقق بالنوايا، ولا يخرج إلى النور، أو يتحول إلى واقع، عبر الشعارات والتظاهرات، فمثل هذه الأمور أقل من أن تنهض بعمل جبار يقلب حياة الناس رأساً على عقب، وينقلهم من حال إلى حال.
وللأمانة فإن بعض الأحزاب والفئات في القرن الماضي، أدركت سر التخلف، واجتهدت في اختيار منظومات فكرية جديدة.
وبغض النظر عما حققته من أهداف، فإنها وضعت أصابعها على الجرح، وعلمت أن إزاحة قوى، والإتيان بغيرها لن يحل المشكلة، ولن يصبح العرب بواسطتها قوة كبرى في المنطقة، فقامت بتبني حزمة من الأفكار القومية والاشتراكية والليبرالية والدينية، مع اختلاف أصحابها في الوسائل والأهداف، لكنها أخفقت في تحقيق أهدافها بعد اشتداد حدة الخلافات في ما بينها وتبديد قواها في ما لا طائل وراءه.
إن على النخبة أن تنتبه إلى ما وقع فيه العرب، بعد تحررهم من الارتباط بالدولة العثمانية، وقوى الاستعمار الغربي، وتدرك السبب الذي منعهم من صنع النهضة، فالنخبة هي المؤهلة قبل غيرها لاكتشاف مواطن الخلل، وسبر عوامل القوة، وهي التي تستطيع أن تجد الطريق الحقيقية للتغيير ، بعد التجارب المؤلمة التي مرت بها هذه البلدان، وإذا ما نجحت في وضع منظومة فكرية قادرة على انتشالها مما هي عليه من تخلف، فلن تكون مهمة الإصلاح متعسرة، ولن يكون بوسع من هب ودب أن يعلن نفسه مصلحاً عظيماً دون أن يمتلك من الأدوات ما يستطيع به تنفيذ برامجه على الطبيعة.