الولادة الحقيقية للعراق كانت عام 2003، وليس غيرها. ولادة طبيعية، لم تكن قيصرية ولا من الخاصرة، ولم تكن أيضًا بقابلة أمريكية. ولادة الشعوب تختلف عن ولادات البشر والكائنات الحية الأخرى. الإنسان يولد من رحم عميق، والشعوب أو الحضارات تنشأ وتنبثق وتولد وعينها إلى السماء. عودوا للسومريين أو الهنود الحمر، وللحضارتين الهندية والصينية، تجدون أن تلك الحضارات ولدت وعينها إلى السماء.
يولد الإنسان من الماضي، أما الشعوب فمن المستقبل. الحمل الخادع والولادات الكاذبة المتكررة؛ 1920، 1958، 1968، كانت من فعل عامل خارجي أو عبر عابري سبيل طردتهم “الوطنية العراقية” مثل عبد الكريم قاسم.
في 2003، كانت الولادة الحقيقية للعراق؛ وطن بلا أبطال وشعب غرائزي ونخب حولاء مرتشية براغماتية. على عكس الولادات الكبرى، كانت الولادة العراقية الجديدة لشعب لا ينظر إلى أعلى، إلى السماء، شعب يحدق إلى الأسفل. هل نقول ولد عراق أعمى؟
بالطبع، هذا ليس جلدًا للذات الوطنية، بل لفهم لماذا اشتركنا جميعًا بتعميد هذا اللقيط فحملناه إلى أعلى فيما ننظر إلى الأسفل، إلى غرائزنا، مصالحنا الدونية.
العلامات الفارقة: بلا. هكذا يُكتب في هوية الأحوال المدنية قبل مسخها إلى بطاقة وطنية ببروفايل قبيح. لكن الولادة العراقية كانت بعلامات فارقة كثيرة ومحددة في نفس الوقت.
في العراق، أكبر مؤسسة للشهداء في بلد بلا قضية وبالتالي بلا شهداء، حتى شهداء تشرين وكأنهم ضحايا انقلاب “تكتك” من فوق جسر الجمهورية.
”الإله” العراقي يختلف عن “الإله” الفلسطيني، إله غزة. أرض العراق ليست كأرض غزة.
قبل هزيمته الكبرى، أعطى صدام حسين، وهو نبي أعمى أيضًا يسبح بالدم، أعطاها اسمًا: حواسم، وبالتالي أصدر “البطاقة الموحدة” للنظام الذي يعقبه. تلاعب العراقيون مع صدام وتبادلوا الأدوار. هذا الأخير أطلق تسمية مضحكة على هزيمته الأخيرة، فاستعارها العراقيون لوصف “نصرهم” المجيد.
حتى المنفى العراقي، لما انكشف وعاد ولم يعد، بدا محليًا أكثر من شرطي في مدينة على الحدود.
كانت فكرة “تحرير العراق” قد ولدت في حضن “المنفى العراقي”، وبالمناسبة، هناك فرق جذري بين المهجر اللبناني والمنفى العراقي، بين جبران خليل وكنعان مكية. لكن جوهر الفكرة هو إقامة أسس العراق الجديد؛ من عراق يعاني من فائض القمع إلى نظام لا يحتاج لمؤسسات قمعية، حيث الشعب يصنع أغلاله بيده. من سردية الحرية الكاذبة، يبني الشعب سجنًا له، ومن وهم الديمقراطية، يختار الشعب قاتليه ومستعبديه بكل حبور وسرور.
هذا هو العراق الحقيقي الذي يظن صانعوه أنه مثل “الرايخ الثالث”، سيستمر لألف سنة، لكنه سيسقط مثل سن خائس في فك لا يعرف الضحك ولا الحديث.