كأنَّ عراقيل زواج صديقي الغجري لا تأتي فرادى على رأسه؛ ما صدَّق نجاحه بتلبية طلبات أم العروس حتى ظهرت أمامه عقبة كأداء كادت تطيح بمشروع الزواج من جذوره؛ إذْ طلبت منهُ محكمة البصرة كتاب يؤيد عدم ارتكابه جريمة الهروب خلال الحرب حتى يتم إنجاز عقد الزواج أمام القاضي؛ وكان هذا الشرط الانتقامي قد وضعه الطاغية أمام الجنود الذي فرّوا من الحرب لغلق الأبواب أمام أحلامهم وأمنياتهم ولتدمير حياتهم. لم يكن أمامه سوى مقابلة رعد بندر رئيس اتحاد الأدباء وطرح مشكلته عليه بعد أنْ عادت المياه إلى مجاريها بينهما؛ والحق أنَّ بندر كان من المتحمسين لمشروع زواج صديق الغجري وقد طوى ذلك الشجار العنيف الذي جرى بينهما خلف ظهره وأصدر كتاب تأييد إلى المحكمة بوصف صديق الغجري عضوا في اتحاد الأدباء؛ وبذلك أنجز قرانه من الفتاة البصرية؛ ولم يكتف رعد بندر بذلك؛ بل وعده بحجز ليلتين مع عروسته في فندق السدير على حساب الاتحاد إذا ما تم هذا الزواج؛ وقد أوفى بوعده على أكمل وجه. في تلك الفترة أجرى خالد مطلك لقاءً مطوَّلاً مع رعد بندر على الصفحة الثقافية لجريدة الجمهورية ومن الأسئلة التي طرحها عليه إعطاء رأيه في بعض الشعراء؛ وحين سألهُ عن صديق الغجري؛ كانت إجابة بندر صريحة وبلا أحقاد حين قال: هذا شاعر كبير؛ وأخشى أنَّ صعلكته وتمرَّده سيقضيان عليه. في ليلة الزفاف رنَّ هاتف المنزل وكان صديق الغجري على وشك ارتداء بدلة العرس التي استعارها مع الحذاء من أحد أصدقاء مدينته، جاءه النبأ عبر الهاتف:
- إنَّ الشاعر حميد سعيد مع ولده مصعب حضرا لزفافك.
ترك سمّاعة الهاتف تتأرجح في الهواء وقلبه يدقُّ مثل طبل في عرس من هول الفرح؛ لقد كانت مبادرة رائعة من شاعر طفولة الماء الذي جاء من بغداد لحضور حفلة زواجه، مستبعداً في ذات الوقت أنْ يهديه بعض المال بسبب الحصار الذي شلَّ مدخولات الجميع والظروف المرتبكة التي كان يمر بها تلك الأيام؛ بعد أنْ جرَّده مكتب الثقافة القومي من منصبه كرئيس تحرير لجريدة الثورة؛ مما ترك وضعه الاقتصادي بحالة حرجة؛ وقد أجبرته الحاجة على بيع مقتنيات عزيزة من داره بسبب الضنك، ولم يكن وصول الشاعر حميد سعيد إلى كربلاء في تلك الليلة بالأمر اليسير؛ فثمن الوقود الذي اشتراه إلى مركبته حتى يحضر زفاف صديق الغجري؛ كان نتيجة بيعه إلى مسبحة عزيزة على قلبه. بعد مضي يوم على عرسه طرق باب منزل أخته صديقه الناقد محمد علي النصراوي طالباً منه إرجاع الحذاء؛ إذْ كان النصراوي يبيع أحذية رخيصة الثمن في شارع العباس؛ وقد حضر لأنَّ مدة استعارة الحذاء قد انتهت؛ ولذا وضع صديق الغجري بمأزق لا يحسد عليه؛ فطلب إمهاله ليومين إذْ من الصعب اختفاء الحذاء أمام عروسه في أول يوم زواجهما؛ لكنَّ النصراوي ظلَّ نابتاً في الباب مثل سنديان وأصر على استلامه. دخل صديق الغجري مثل مهزوم والتقط الحذاء فسألتهُ العروس مندهشة:
- هل ستعطي حذاءك إلى صديقك؟
كاد يغمى عليه من فرط الحرج؛ لكنَّ الله ألهمهُ بجواب مقنع:
- صديقي على وشك الزواج واحتاج إلى حذائي.
لقد أفرحها جوابه وأثنتْ على طيبة قلبه وسخائه؛ وهي لا تعلم إنَّما زوجها استعار الحذاء من هذا الصديق وإلاَّ كان قد ظهر أمامها حافي القدمين ليلة العرس. ما أن انقضى الأسبوع الأول على إقامته في بيت أخته حتى شعر بثقل وجوده مع زوجته على المكان من فرط حساسيته ورهافة مشاعره؛ إذْ لم يعد مرتبه في جريدة العراق يكفي لمدة ثلاثة أيام مع ارتفاع الأسعار الفاحش؛ ولذا قرر السفر إلى الأردن أسوةً بالأدباء الذين سبقوه بعد وصول دعوات لهم من رابطة الكتاب الأردنيين؛ لكن رعد بندر اعترض بشدَّة على ترويج معاملة سفره وقال للحاضرين في مكتبه بالحرف الواحد:
- إذا تركنا هذا الصعلوك يخرج من البلاد، سيفضحنا.