الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العراق موعود بشاعر إسمه يوسف كبو

بواسطة azzaman

العراق موعود بشاعر إسمه يوسف كبو

قاسم حسين صالح

 

توطئة

  (قناديلٌ تضيءُ خرائطَ العتمةِ) هو عنوان ديوان الشاعر يوسف كبو،تضمن (78) قنديلا تتنوع الوانها بين: الفلسفة، الدين، الموسيقى، الشعر،  الادب، الرقص، العلم..كثير منها نعرف حامليها : سقراط ،المسيح ،فرويد ،بيتهوفن ،مارلين مونرو،  شارلي شابلن، المتنبي، دستيوفسكي،نوح،ليلى العامرية..وبينهم من  يجود علينا يوسف بالتعرّف عليهم: (رينيه شار)..شاعر وكاتب فرنسي، (يسنين)..شاعر روسي صعلوك، (هايدن)..موسيقار نمساوي..وآخرين  يرى فيهم يوسف أنهم اضاءوا خرائط العتمة.

يفتتح يوسف قناديله بقوله:

(لأن الشِّعْرَ تَحْلِيقٌ صامِتٌ إلى المجردِ

ها هي الآلهةُ تنظرُ إلينا بدهشةٍ

لنوقظَ الأرواحَ الراقدةَ في اللُغّةِ

ونخلقَ من رعشات الأزهار البريّة في غابات الخيال ,

حُسْناً أكْمَلَ من حَوّاء).

  ما يعني ان يوسف متفائل،وأنه حكيم يتمتع بذوق راقي وبصيرة قوية بدليل انه اختار(78) شاعرا، فنانا، اديبا،عالما،موسيقارا،راقصا..أضاءوا للبشرية قناديل المعرفة والحب والجمال..بدأ أول قناديله بأم المعارف..الفلسفة،وبرائدها سقراط  ليضيء لنا ما وثقه التاريخ قبل الفين وسبعمائة سنة، ليوصلنا الى المتنبي وشارلي شابلن ومارلين مونرو في القرن العشرين.

 الميزة التي ينفرد بها يوسف في ديوانه هذا،انه ما سبقه أحد الى فكرته التي اراد منها ان يكون مبشرا للأنسانية في زمان تتهدد فيه البشرية ليس فقط بتقلبات المناخ وما قدمته من ضحايا،او بتزايد حالات من اوصلهم الاغتراب الى انهاء حياتهم بطلقة،أوبشقاء المواطن من حكوماته، بل وبحماقة السياسة التي صارت تنذر بحرب عالمية نووية قد يشعلها احمق على طريقة نابليون ( عليّ وعلى اعدائي).

 

بدأ يوسف قناديله..بسقراط الذي يراه:

(يمشي مسحورًا على فرشةٍ سماويةٍ

والفراشاتُ تحومُ حولَه

على اتساع أسئلتِهِ تتسعُ الجهاتُ أمامَهُ

على اتساع رؤاه تتسعُ الاشياءُ وتترأرأ حقائقَ جديدةً 

ويدُ الشمسِ فوقَ خدِّهِ

ماثلةٌ أيامُهُ أمامَهُ

كلافتةٍ تتحفهُ بانتشاءٍ ذهبي)

ويقفز بنا من عام 400 قبل الميلاد الى عام 1700  الى ايمانويل كانط ليوكد بقاء الفلسفة  وانتقالها من اليونان الى اوربا التي يختمها بحسرة كانط:..آهٍ!( لو يتاحُ لي أن أكملَ ذاتي ،كي يكتملَ العالمُ على مدِّ الزمانِ ).

 ما يعني ان يوسف يرى أن الفلاسفة هم اول من اضاء المعرفة وأول من احب الحكمة ،في مفارقة..انهم برغم حبهم للحكمة لكنهم لم يصلوا الى فهم كنه العالم ولا فهم اعماق الأنسان..ولهذا نشأت منها عشرات العلوم يحاول كل منها فك لغز العالم والأنسان.

وعتبي على يوسف لو أنه استكشف  قناديل فلاسفة عالمنا العربي  واختار منهم ابن باجه،مثلا، فيلسوف السعادة الذي قتل مسموما،وكان في زمانه اشهر فيلسوف في الشرق والغرب وترجمت كتبه الى اللاتينية،واعتمدت مراجع في الفلسفة.                                 

وينقلنا يوسف الى الادب..ويبدأ باضاءة قنديل دستيوفسكي:

(في طهارةِ الفضاءِ الرحبِ

كانَ إذا

داعبَ قوسَ الشمسِ أوتارَ قلبِهِ

وَرَقَصَتْ الأفلاكُ والأشياءُ

الآهلةُ بالرموزِ احتفاءً بوجودهِ،

ككائنٍ مضرجٍ بضوءِ الفراشةِ

مزدحمٍ  بالكونِ،

مصنوعٍ من حبٍ وألمٍ ونارٍ

يفيضُ لطفاً , يجمعُ بين الأرضِ و السماءِ)

  الكل يعرف ان دوستويفسكى  اشهر روائي في العالم ،ولكن ليس هذا الكل يعرف انه (عالم نفس )..انفرد بالغوص بمهارة في النفس البشرية ،واعترف رواد الطب النفسي بدوره في كشف تفاصيل الصراعات النفسية ومساعدته للطب النفسي وشيخهم فرويد بقوله (دوستويفسكي معلم كبير في علم النفس ،لا اكاد انتهي من بحث في مجال النفس الأنسانية حتى اجد دوستيوفسكي قد تناوله قبلي في مؤلفاته). وكنت انا من بين الذين جعلني اهوى علم النفس بعد ان ترددت بالدخول الى قسم علم النفس بالجامعة المستنصرية حين سهرت مستمتعا بقراءة رواياته :الجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف و مذلون مهانون..على ضوء الفانوس في قريتي التي تغفو على شط الغراف.

 

ومن ضفاف الفلسفة والدين والأدب، التي قرأناها سيكولوجيا ، ينقلنا يوسف الى ضفة الفن والرقص..الى شارلي شابلن ومارلين مونرو ..

 يضيء لنا قنديل شابلن وقد ابصره:

( ماشياً تحتَ المطرِ

روحًا يلونُهَا حزنٌ مشوبٌ بالدهشةِ،

يواجُهُ الحبَّ بالبكاءِ.....

يتعذبُ في أروقةِ الصمتِ

باحثًا عن الضوءِ في نصوصِهِ المظلمةِ

وقد اعتلاهُ الشرودُ المؤلمُ

رأى الحياةَ عن قربِ مآساةً

وعن بعدٍ ملهاةً

 وفي عينيهِ همومٌ تلهثُ بالرثاءِ

فيما عصاهُ وَمَشْيَتَهُ تقولانِ للإنسانِ

كبرياؤُكَ  لا تضارِعُها  كبرياءٌ).

  وهنا يقترب الشاعر يوسف من ان يكون (عالم نفس) في كشف حقيقة شابلن الذي رأى الحياة عن قرب مأساة وعن بعد ملهاة ، وان عصاه ومشيته تقولان للأنسان: كبرياؤك هي اهم ما في حياتك..وما كان شابلن يعلم ان عصاه ومشيته بشرّتا بفن السينما!

ومن شابلن يضيء لنا يوسف قنديل مارلين مونرو ليرينا:

( رغباتٍ خفيّةً أكثرَ وضوحًا من عريها

أرطبُ من فستانِهَا

وصوتًا ضاجًّا نداوةً ليليةً ، قريبًا

من ( جون كنيدي ) ،تلقفَهُمَا

كمُسارّةٍ غريبةٍ وهمسِ ضوءٍ

قاذفًا ببصرهِ إليها

رآها قَضَتْ الأضواءُ منها وطَرَاً ، تَلَفَتّ اشتهاءً

سمعَ قشعريرَةِ جسدِهِ ، قرأَ رغباتِها المتأرجحةِ

بين العطرِ والجمرِ، وما يشهقُ في جسدِهَا من شبقٍ ورديٍ

فيما هي تستعرُ في ثنايا الرخامِ ، كإلهٍ من رنينٍ

تختلسُ الجمالَ من الأبديةِ. )

 ماذا نقول وقد قال يوسف عن رغباتنا المتأرجحة بين العطر والجمر والشبق الوردي بأجمل ما قيل عنها..شعرا!

     

ويذهب بنا يوسف الى الفن التشكيلي ويختار اغرب اثنين..فان كوخ وسلفادور دالي 

ويختار من دالي:

(ثمةَ ساعةٌ برتقاليةٌ ، دبَ النملُ فوقَها

إنفرشتْ على رأسِ كائنٍ مَسْخٍ

غطَّ في نومٍ لذيذٍ

الساعاتُ ، هذه الساعاتُ

سالت منها مكوناتُ الكونِ

 جرتْ في صحراءٍ متصدعةٍ خاليةٍ

أحدثتْ خشخشةً

وانفرطتْ وتلاشتْ في المطلقِ

كرجفاتٍ شاردةٍ

جعلتْنَا نشاركُ الخيالَ لزوجتَهُ الغنيةَ. )

المفارقة هنا ان فان كوخ وسلفادور دالي هما بالتعبير العراقي مخبولان مجنونان.

لقد زرت في مدريد متحفها العالمي  وحين نزلت الى الاسفل حيث جناح دالي، كانت الاضاءة والجو العام فيه يوحي بالحالة السيكولوجية والعقلية التي وصفها هو(دالي) بقوله (الفرق بيني وبين المجنون انني لست مجنونا).  كانت كل لوحة تستوقفني زمنا تأخذني فيه الى اللامعقول. ففي لوحته “عودة الفجر” صور دالي الرجل الشاب هيكلا عظميا. وكنت اعرف انه حين كان طفلا تعرض مرة الى خوف ورعب من ان يؤكل،  وهو يعاني ايضا من خوف غير معقول من الجراد  فرسم الجرادة  في لوحته تلك تظهر على فم الرجل الشاب - الذي هو دالي

وكان اصغر قنديل واقواها اشتعالا واقبحها فعلا هو قنديل نابليون:

(كانَ، كلما أتاهُ وحيُ الحربِ

لِمَحْضِ نزوةٍ

وهوَ في ثوبِ عاشقةٍ من عشيقاتهِ

قادَ العالمَ إلى خرابٍ آخرَ.)

وليته يهديها الآن الى نتيناهو،وليته اهداها قبل ذلك الى بوش الذي احرق بغداد.

 

ونأتي الى اشهر شاعر عراقيا وعربيا في قنديله عن المتنبي  قائلا:

وأنا أُبحِرُ في الحلمِ ، أقتفي أشلاءَ روحي

أبصرتُكَ آتياً على سرجٍ سابحٍ

من نهاياتٍ تنأى، مكتظاً بصمتٍ

واقفاً على حافةِ هاويةٍ

.....

وقد شغفَ بك هذيانٌ

تمضي على طريقِ المتاهةِ

مكتظًا بفواجعِكَ

تُغري الشعراءَ للتنزهِ في حدائقِكَ

 

ويدعو المتنبي قائلا:

افتحْ لنا صدرَ قصيدتِكَ

خُطَّنَا فيها

دعنَا نُصغي إلى لهاثِ الريحِ في الكلماتِ

دعهَا تخبُّ إلينا كفرسٍ مطهمةٍ بعطورٍ

ريثما تدورُ حولَ خاصرتِها عوالمٌ ودهورٌ

...

دعِ الكمنجات ترطنُ بأحلامِ الفراشاتِ

والوحيَ عندَ بئرِ الأحلامِ يصوغُ اشعارَكَ

دعِ النبوءةَ تتوثبُ فيكَ، واهذي بِنَا كما شئتَ

 

ويختمها:

خيرُ جليسٍ لنا كتابٌ

يوقظُ شواطئًا ، يرى في الشقائقِ فناراتٍ

وفي القطيعةِ عما مضى إحتمالٌ لنا

خيرُ كتابٍ لنا معجزُكَ يا نبي الكلامِ.

 

  يوسف ..منبهر بالمتنبي وهو على حق حين وصف شعر المتنبي بأنه اعجاز ووصف المتنبي بانه نبي الكلام. وما كتبه هو انحياز شاعر لشاعر، فيما نحن السيكولوجيون نرى أن المتنبي مصاب بتضخم الأنا، وان تضخم الأنا هذا هو الذي قتله.

  فحين عاد المتنبي من بلاد فارس متوجها نحو الكوفة، لقيه فاتك الأسدي وهو خال (ضبة) الذي هجاه المتنبي ومعه ثلاثون فارسا يحملون السيوف والسهام.وتقاتل الجمعان في معركة غير متكافئة.وبعد مقتل ابنه (محسّد) اراد الفرار، فجاءه غلامه مفلح يسأله: (ألست القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني...)، فردّ عليه المتنبي: (قتلتني قتلك الله)، فرجع وقاتل بشجاعة حتى قُتل.

وليت القائل كان خصمه فاتك..فبها وجهة نظر تعتبر فراره عارا ، لكن القائل هو غلامه ..فكانت النتيجة أن قتل هو وغلامه مفلح وأبنه محسّد  في مشهد يجسد حماقة تضخم الأنا!

 

 ويختم يوسف قناديله بقنديل لاعبة الجمباز الايقاعي الروسية  ايفجينا:

(حيثُ يحملُ جسدُهَا الباذخُ اللذيذُ 

نسيمَ روحي ، يكتظُ بحمائمَ شفافةٍ

وبفتنةِ الموسيقى

يتكورُ،ينحني، يستقيمُ

يتدفقُ جموحًا،تعلقُهُ على مشانقِ الهواءِ الحريريةِ

تروضهُ على التحليقِ،يتمردُ على الفسلجةِ

تنحرفُ القوافي عن مسارِهَا

تهدرُ،تذهبُ، تجيءُ

تغمضُ عينيها،أصيرُ رهنَ حلُمِهِا..

ويناشدها يوسف:

(إفجينا , ساعِديني كي أخرجَ من ضيقيَ

و أدخُلَ في هَذهِ السَرْمَديّة

لارى العالمُ بعيونِ حبيبتي

 كما رآهُ أراغون بعيون إلزا

لَعَلَّ الكونَ يَجُّرُني معه

فَاُصْغي إلى هَمهَماتِ البشر و هدهدة أرواحِهم)

وكان يعرف ان مناشدته هذه هي مناشدتنا جميعا جاءت على لسانه.

 

  هل استوفينا القراءة النفسية لقناديل يوسف؟

الأجابة..كلا ، فقد بقيت قناديل اخرى تضيء  العتمة: فرويد ، كلكامش، آدم وحواء، سارتر وكامو ،اديسون و جايكوفسكي، مظفر النواب، وآخرون.. لو اكملناها لقلتم معنا: ان العراق موعود،فعلا، بشاعر اسمه ( يوسف كبو) سيكون استثناءا عراقيا وعربيا ايضا، ان واصل نهجه الشعري وطوره.


مشاهدات 315
الكاتب قاسم حسين صالح
أضيف 2024/08/30 - 11:38 PM
آخر تحديث 2024/11/21 - 6:53 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 268 الشهر 8972 الكلي 10052116
الوقت الآن
الخميس 2024/11/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير