قصيدة المحكمة صورة ترسم عبقرية كريم العراقي

حنجرة القيصر تطلق أحاسيس الشاعر إلى المتلقي

 

رياض محسن المحمداوي

 

كاظم الساهر واحدآ من أهم وأشهر اساطير المطربين والملحنين في الساحة الغنائية العربية والعالمية في عصرنا هذا. ويعد الساهر أفضل من لحن وغنى للحب والمرأة والرمانسية من اشعار نزار قباني.حينها ارتبط اسم الساهر بشاعر المراءة والرومانسية الكبير نزار قباني.

وبلا شك انه استحق لقب قيصر الاغنية الطربية العربية لكونه اخذ مكانته في قلوب الملايين من جماهيره الغفيرة في كل مكان في الارض ذلك بماقدمه من اغاني وقصائد طربية اعادت للاغنية العربية مكانتها بعد غياب اساطيرها.

ورغم ارتباط اسم الساهر بالشاعر القباني.الا ان هنالك شاعر اخر استطاع ان يحل مكان القباتي بل ابعد من ذلك.لقد حفر اسمه في قلوب الملايين من خلال عاشقي اشعاره.كريم العراقي الذي استطاع ان ياخذ مكانة كبيرة في مسيرة الساهر وتاريخه الفني. فقد كانت له حصة الاسد وصاحب الحظ الاوفر من القصائد والاغاني التي كتبها ولحنها وغناها كاظم الساهر والتي تفوق المائة اغنية وقصيدة.

ومن خلال هذا التعاون المثمر بين كريم العراقي والساهر. استطاع الساهر ان يستمر بنجاحاته الي تميزت عن غيره من المطربين والتي لاقت اهتمام كبير من قبل الجمهور العربي من المشرق حتى المغرب.

فقد استطاعت عبقرية كريم ان ترسم اسلوبآ حديثآ في قصائد الشعر المغناة.فقد اسس مدرسته الشعرية الخاصة في عالم القصيدة المغناة من خلال الجمع بين الشاعرية والصورة والطربية في الرومانسية المحتشمة باسلوب مبسط يخاطب كل الاعمار.والتي احبها الملايين. ومن خلالها اطلق الجمهور على الشاعر العراقي لقب شاعر الحب والحرب والسلام. من خلال اختيارة الناجح للنص الذي يتناول الحياة اليومية للناس الذي يمتاز بالحوار المباشر والوجدانية وحرصه بانتقاء النص باللغة الشفافة البيضاء التي وفرت مساحة واسعة للمستمع العربي.

لقد نجح العراقي من خلال هذا الدوتو ان يوصل كلماته لكل العالم من خلال احساس الساهر الذي وجد بكريم العراقي العبقرية والمدرسة الجديدة في رسم الصورة بالقصيدة بالوان الطيف. والتي تختلف عن اسلوب الشعراء الاخرين. وقد شكل الاثنان ثنائياً ناجحاً بحيث ان الساهرلم يتخل عن اشعاره في أي من ألبوماته. بدءً من مرحلة البدايات وحتى مرحلة النجومية.

ان عبقرية العراقي تكمن في شاعريته بالتمسك بالصورة المبسطة والوجدانية المزركشة التي لاتخدش الحياء والتي تتسم بالشفافية الخجولة. وهذا الاسلوب غلب على اغلب نصوصه الشعرية والغنائية وحتى في القصيدة.كان مؤمنآ ان النص صورة يجب ان ترسم بحرفية لتترجم احساس الشاعر الذي يجب ان يصل من خلال الساهر الئ المتلقي..

وهنالك العديد من الاغاني التي كتبها الشاعر العراقي وغناها الساهر قد امتازت بعبقرية الصورة في النص وترجمت بعذوبة اللحن الذي تميز بالانتقالات النغمية والموسيقية الصعبة التي اضافت اكثر جمال للنص. ومن اجملها:

قصيدة المستبدة والتي ضمها في ألبوم (الحب المستحيل) الذي صدر عام 2000 من كلمات الأغنية: قالت لكل الاصدقاء... هذا الذي ما حركته أميرة بين النساء.

سيستدير كخاتم في إصبعي. ويشب نارا لو رأى شخصا معي. سترونه بيدي أضعف من ضعيف. سترونه ما بين أقدامي كأوراق الخريف. يا مستبدة.

وكذلك اغنية: كل ما تكبر تحلى وقد ضمها الساهر إلى ألبوم (حافية القدمين) وهو الألبوم السادس في مشواره، وقد صدر سنة 2003.وتقول كلماتها: مرت من شارعنا.. سكتت كل القهوة.. عضينا أصابعنا.. إعجابًا بالحلوة.. واحد هز الشارب.. واحد حرك حاجب.. هي ارتبكت. عثرت. ضحكت.صاح الكل اسم الله.. كل ما تكبر تحلى.. وتصير أحلى وأحلى.

واغنية ها حبيبي  وهي من ضمن أغنيات ألبوم «بعد الحب» والذي صدر سنة 1995.

تقول كلماتها: ها حبيبي مو على بعضك أحسك.. ها حبيبي لخاطري لا تأذي نفسك..

منو زعلك (إنت) منو زعلك (إنت) مني تزعل؟ والله زعل الدنيا كلها ولا مكروه يمسك حبيبي.

واغنية نزلت للبحر  من كلمات كريم العراقي وهي من أهم وأولى ألبومات الساهر «سلامتك من الآه» والذي صدر سنة 1993. وتقول كلماتها:

«نزلت للبحر تتشمس الحلوة.. رفقاً بالبشر ها يا بنت حواء.. نزلت للبحر مدري النزل قلبي.. 

إحميها من الخطر وإحرسها يا ربي..علا الموج الحذر يا حلوتي إسحبي.. داعبها بلطف ما تحمل القسوة.

واغنية سلامي،الاغنية ضمن ألبوم «مدرسة الحب» الصادر سنة 1997. وتقول كلماتها:

سلامي على اللي حاضر معانا..  سلامي على اللي خالي مكانه.. سلامي إن شاء الله يوصل سلامي..  أسامي ما أريد أذكر أسامي..  سلامي على اللي صان المحبة..  سلامي على اللي فرقته صعبه.. بعيد وياكل ويشرب معانا.. عزيزي وصاحبي وقلبي على قلبه.. سلامي.

صورة عبقرية

ومن اهم ماغناه الساهر للشاعر كريم العراقي رائعته {قصيدة المحكمة}

اغنية المحكمة التي كانت دوتو بين اسماء المنور والساهر وهي من الاغاني الخالدة والتي تمتاز بخصوصية عالية الحساسية لكونها صورة عبقرية للشاعر العراقي. تعالج قضية اجتماعية حساسة.

ان ابداع العراقي في هذا النص يكمن في ايصال الصورة للمتلقي على شكل حوار ادرامي متبادل.

ومن كثرة حبي لهذه الاغنية كنت قد سالت صديقي الشاعر كريم العراقي اكثر من مرة عن تلك القصيدة وظروفها.. وكان كلما سالته عنها. كان يحاول ان يجاوب جوابا عاديآ. فاحسست ان وراء تلك القصيدة لغز كبير لايتعدى قلب الشاعر. لكوني كنت كلما سالته لاحظت الاحراج في عينيه انه لا يريد ان يبوح لي بالجواب الحقيقي رغم حبه لي كاصدقاء دامت صداقتنا اكثر من 30 عام.

وكنت لا استسلم بالسؤال باكثر من مناسبة نلتقي فيها في ان اعرف سر تلك القصيدة.. ودائما ما كان احساسي يقودني الى ان كريم كان يخفي سرآ خلف تلك القصيدة التي اعشقها ولم امل سماعها سواء في البيت او في السيارة والتي لا امل في ان ارددها مع نفسي.

فكنت كلما التقيت مع كريم استفزه للجواب الحقيقي لتلك الملحمة والصورة المؤلمة التي رسمها في قصيدة المحكمة.

الى ان في يوم ما كنا نجلس في احد الاماكن السياحية على سواحل الشارقة وكان معنا الملحن القدير علي سرحان. وكان طقس الامارات في الشهر 2 يصف باجمل شتاء في العالم. وكان مزاج كريم عالي. فتسللت لصاحب المكان وترجيته ان يسمعنا قصدة المحكمة لكاظم الساهر فاستجاب على الفور.فاستغليت هذه الفرصة بالسماع معآ لاغنية المحكمة. وبعد ان انتهت الاغنية عدت للسؤال عن تلك القصيدة ولكن بطريقتي الاستفزازية. وهي قراءتي للقصيدة فقلت (الله الله ياابا علي هل كنت رسام جيد وانا لا اعرف ).. قال ولماذا هذا السؤال..

قلت انا لا اقصد رسمك للوحة.. بل اقصد انك اعظم من رسم الصورة في القصيدة.. فضحك بامتنان.واخذت اتلو القصيدة:

كن منصفا يا سيدي القاضي

ذنبي أنا رجل له ماضي

تلك التي أمامك الآن

كانت لدي أعز إنسانة

أحببتها و هي أحبتني

صدقا جميع الهم أنستني

صارحتها و قلت مولاتي

كثيرة كانت علاقاتي

قالت: حبيبي دع الماضي و قبلني..

وهنا اكمل العراقي القصيدة.. بالقائه الاجمل وصوته الساحر.. وعندما اكمل تحسر ثم قال لي.(ياخويه يارياض والله انت ماترتاح الا تنبش تراب الموتى). فضحكت وقبلت يده..

وهنا جاءت الفرصة لاستفر قريحته بالكلام.

فقلت له وبسرعة بديهية نعم؟ انا اليوم لا ابرح مكاني الا ان تقص لي حكاية هذه القصيدة التي احسها انها ماتزال حية في احساسك وان كنت قد وصفتها بالميته..

قال. حبيبي ابو الروض راح اجاوبك لان احساسي بقصيدة المحكمة وصلك واخذ يعيش معك وبجوارحك.المصيبة لكون احساسك احساس فنان عالي.

لذلك احسست بمعاناتي بهذه القصيدة..

واخذ يسرد الحكاية..!

ان قصيدة المحكمة لم اكتبها كفكرة عابرة بل كما غيرها.بل انني رسمت صورتها وترجمتها كحكاية تحمل مجموعة احاسيس حقيقية عن قصة حقيقية عشتها ولاتزال تعيش معي رغم انها حدثت منذ سنوات طوال.فهي لم تفارقني يوما من الايام طيلة حياتي. لكوني كنت انا بطل تلك القصة التي كنت فيها انا الظالم وانا المظلوم الذي حاولت أن اكسب عطف القاضي

بمطالبتي له بان يحكم بالإنصافي ضد خصمي رغم اعترافي بما لي من ماضي له وللخصم من قبل.

ولا انسى حينها التفت لها امام القاضي. وبدأت اذكرها بوعدها القديم لي من أنها لاتذكرني بالماضي وتعيش معي الحاضر.لكون الماضي صفحة طويتها حين عرفتها واحببتها وعاهدتها انني ساحبها الى الابد وان ماكان ماضي قد مضى مع الزمن.

فالتفت لها القاضي وقال لها..! اصحيح هذا الوعد.

وقد تعثرت في كلامها من حرج موقفها وهي تدير بعينيها نحوي ثم هاجمتني وصرخت في وجهي وهي تشير لي بالسبابة وعيونها كالنهر الجاري. وادعت بأني انا من دمرتها وطعنتها في كرامتها. رغم انها اعترفت امام القاضي بانني احببتها ودللتها واحسستها باجمل لحظات الحب ومن ثم سقيتها مر العذاب بخيانتي لها بما تحمله ذكريات الماضي.

فقلت ياسيدي القاضي هل رايت ادعاء يوما على ماضي..! وقلت لها كم من الغيرة قتلت حبآ. وكم من الظنون دمرت بيوتآ. لقد صبرت على شكك كثيرا لانني احبك. فقلت انها ستنظج وتكبر ويتبدل حالها بمرور الزمن و أن غيرتها العمياء ستزول مع الايام وتدرك ان حبي لها فوق كل ظنونها ولكن. كنت كل يوم تزدادين شكآ بالماضي و تتهمينني انني لازال الماضي يعيش معي ولازلت اعيش فيه وانك لم تكفي اليوم ان تطالبي القاضي يتحريرك من قيد ذلك الماضي. ولكنها تصر وتطلب هي الأخرى الإنصاف من القاضي..و تنتهي الجلسة دون أن يحكم  القاضي. وهذه كانت اخر حيل المحب للمتمسك بمحبوبته عسى ان تقتنع بانها غلطانة الظن وتصفح عن جرح سببه لي ولها ماضي. فكنت لا اريد ان افقدها وكنت مستعد لاي شي يرضيها بان تترك فكرة الفراق. ولكن رغم كل تلك المحاولات كنت قد فشلت في اقناع حبيبتي عن الرحيل. فاصرت على الرحيل وهي تلتحف حكاية مضت فمضت معها دون ان يحكم القاضي.

 ان كل اعتقادي ان الشاعر كريم العراقي قد عجز عن حل تلك القضية المصيرية الشخصية. فقرر احالتها لنا جميعا وخول المجتمع وكل واحد منا ان يحكم بما يراه ضميره من عدل.

ان عبقرية الشاعر كريم في قصيدة المحكمة تكمن في رسم صورة اجتماعية حية تحدث كل يوم في مجتمعنا وقد يحمها احدنا سرآ مؤلم يعيش معه. ولكن حب كريم لجمهوره وثقته به قرر ان يقدم تلك الحكاية الحقيقية لنا بحذر وبعيدآ عن الانانية والتحيز لكونه انسان نبيل يشعر بالذنب.فكان يريد ان يشركنا بالحكم عن تلك القضية كونه احد ابطال تلك الحكاية. وكانه يريد ان ينصف الخصم بحكم الغير قبل الحكم عليه ليريح ضميره من عبيء حمله في نفسه دون ان يتم الحكم فيه من ابرع القضاة. فترك الحكم متعمدآ لكل ظمير حي.ليريح ظميره.

وهنا كنت قد هتفت بوجهه كم انت نبيل يا ( ايها الكريم ). فاجاب عسى ان اكون الذي ذكرت.

كثيرا ماكنت متردد ان انشر هذه الحكاية للعلن لكوني احسها اصبحت جزء من ممتلكاتي التي خصني بها صديق عمري فقيدي الانسان و الشاعر الكبير كريم العراقي.. ولكنني احسست من الامانة انني يجب ان اطلق حريتها لتكون دليل على فروسية كريم ونبل ظميره الحي واحساسه المفعم بالوفاء. فقد رحل وهو لازال متمسكآ بهذا الحب الذي يتخطى كل سنوات العمر.

لقد ابدع العراقي في نقل هذه الملحمة الشعرية لروح الساهر الذي ترجم احساس كريم بكل امانة وباجمل لحن من الالحان الخالدة وقد توجه بغناءه المليء بالشجن.

لقد كان ثنائي كريم العراقي وكاظم الساهر من انجح الثنائيات في تاريخ الاغنية العربية.

لقد كتب كريم لكاظم الساهر اجمل القصائد في الحب والوجدان والحقيقة والانتماء الوطني مايفوق ال 100 قصيدة لحن الساهر اغلبها.منها خرجت للعلن ومنها تنتظر ان تخرج من جعبة الابداع الساهري.

لقد أنتجت اغنية المحكمة عام 2009.شاركت بالغناء الفنانة المغربية صاحبة الصوت الجميل أسماء المنور. التي ابدعت في ادائها المميز المليء بالاحساس العالي. وقد استطاع

الساهر ان يوصل لها هذا الاحساس من خلال هذا لحن هذه القصيدة الملحمية الوجدانية الخالدة والتي توجها دور التوزيع الموسيقي للراحل الموسيقار الكبير فتح الله أحمد.

ستبقى روح كريم العراقي تدور في كل الاماكن التي يشدو به صوت الساهر بهذه الاغنية الخالدة. وسيبقى اسم كريم العراقي اسطورة الشعر في الحب والحرب والسلام.