الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السياق التاريخي للمفاوضات المائية مع تركيا 

بواسطة azzaman

السياق التاريخي للمفاوضات المائية مع تركيا 

الفيزياء ترفض خلط المياه بالزيت

جمعة الدراجي

 

المفاوضات التي جرت في نيسان عام 2024 بين الحكومة العراقية والتركية على المستوى الرفيع بين دولة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس التركي رجب طيب أردغان بعد ان أُجلت تلك الزيارة الى عدة أشهر وما سبقها من تصريحات تركية لربط المياه بمختلف القضايا الأمنية والسياسية الساخنة .

لذا نحاول أن نذًكر عسى أن تنفع الذكرى للأمساك بطرف الخيط ونقدح الضوء على السياق التاريخي للمفاوضات المائية مع تركيا منذ أمد ليس بالقريب ، وإن كانت المفاوضات أيٌ كان إختصاصها بين البلدان تتثأر بالعوامل الجيوسياسية. لكن للمياه إتفاقيات عالمية إنتجتها المجموعة الدولية كردة فعل للعديد من المنازعات المائية سواء تم حدوثها فعلا أو متوقعة الحدوث ، تبعا لزيادة الطلب على المياه لتوسعة المساحات الزراعية وإزدياد اعداد السكان والتغييرات المناخية المسببة لأرتفاع في درجات الحرارة فوق معدلاتها وقلة الهاطل المطري المسبب ليس لشحة المياه بل الى ندرتها ، فقد  أشارت وثائق الأمم المتحدة ان المياه العذبة العابرة للحدود السياسية للدول تغطي مساحة نصف سطح الارض ، لتمثل نسبة تقدر 60 بالمئة من تدفق المياه العذبة في العالم .

وتدعم دخل اكثر من ثلاثة مليارات شخص في العالم ، وسبل كسب عيشهم ، وتقوم بدور حاسم لعدد لا يحصى لأستدامة النظم الأكيولوجية ولذلك يعد التعاون بشأن الموارد المائية المشتركة أمراً حيويا لكفالة السلام والأستقرار والتنمية الاقتصادية وحماية الموارد الطبيعية والتنمية المستدامة ، بهدف حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية ، وضمان كمياتها وجودتها ، وإستخدامها المستدام وتشجيع التعاون لذا عملت الدول الأعضاء في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا على أهم اتفاقيتين هما اتفاقية هلسنكي ، بفنلندا، عام 1992وأصبحت نافذة في عام  1999 وتم تعديلها عام 2003 لتمكين أي دولة عضو في الأمم المتحدة من الإنضمام اليها. وفي عام 2016 أصبحت الاتفاقية رسمياً إطاراً قانونياً للتعاون لجعل المياه الدولية متاحة لجميع الدول الأعضاء .

والإتفاقية الأخرى اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية ، لسنة 1997 ، وهما أهم ما توصلت اليه الدول لتقاسم المياه بين الدول المتشاطئة بصورة عادلة ومنصفة إلا أن كل من الجارتين تركيا وإيران لم توقعا على إي من الإتفاقيتين المنظمتين للمعايير والمبادئ العالمية للقوانين والبرتوكولات المختصة بتقاسم المياه . لذا عمدت تركيا الى تعطيش دول المصب وإستطاعت أن تصل بالعراق الى هذه المرحلة لفرض الملفات الأخرى العالقة بين البلدين كالملف الأمني والملف الاقتصادي وموضوع طريق الحرير إو التنمية وإنقطاع أنبوب جيهان وما حكمت به محكمة باريس جراء مخالفتها شراء النفط من الأقليم بدون موافقة الحكومة المركزية بمبلغ 1.5 مليار دولار عن تصدير النفط الى تركيا ما بين الأعوام (2014-2018) لمخالفتها أحكام اتفاقية عام 1973لخط الأنابيب العراقية التركية ولتعليمات الجانب العراقي في ما يتعلق بحركة النفط الخام المصدر من الجانب العراقي لجميع مراكز التخزين والتصريف والمحطة النهائية.

 ويرجح الخبراء ان المحكمة ذاتها قد تصدر احكام لصالح تركيا بفرض غرامات مالية لم يسلم العراق إلا على عدة ملاين من الدولارات ومطالبة تركيا بالخسائر التي لحقتها جراء توقف انبوب  جيهان والمطالبة بشراء النفط بأسعار مخفضة ومبالغ إصلاح الأنبوب ، والاستنتاج الحاصل من هذا يؤكد ان مفاوضات ومحاكمات النفط  ليست لها علاقة بما تؤول اليه الأمور في المفاوضات المائية والحكمة العلمية تؤكدها الفيزياء بما لا يقبل الشك ان المياه ترفض الخلط بالزيت .

ومع ذلك تمخضت المفاوضات بالتوصل الى توقيع 26 إتفاق إطاري من بينها المياه لمختلف القطاعات التي تتطلب التعاون فيما بينهما بحكم الإرتباط الجيبوليتكيا للبلدين والتكامل الهايدروليجي بين ( آسيا الصغرى ) وبلاد ما بين النهرين (الميزوبوتاميا) منذ فجر التأريخ . فإذا الواقع الحالي يؤشر نقص الإمدادات المائية من دول التشارك المائي ، فأن إستقراء مستقبل المياه في العراق يؤشر قد يصل بنا الحال الى إيقاف التدفقات للمجرى البيئي للأنهار طالما تم خلط الأوراق وعرض موضوع المياه بسلة واحدة مع مختلف القطاعات على شاشة جولات التفاوض .

ترسيم الحدود

ولدى المفاوض التركي أرث وإرشيف مفصل عن النظام المائي في العراق ، فمنذ عام 1823 إبان معاهدة ارضروم الأولى التي تناقش أسباب الصراع بين الدولة القاجارية والدولة العثمانية ، بعدها معاهدة أرضروم الثانية عام 1847 نتيجة نشوب حرب ثانية بين الدولة العثمانية والفارسية ، إذ تمكنت الوساطة الروسية - البريطانية بالتوصل الى المعاهدة وتشكيل لجنة ترسيم الحدود بين ايران والدولة العثمانية ، في الوقت الذي كانت بريطانيا اللاعب الأهم الذي يملك ذراع الهيمنة في تقسيم المنطقة بتغيير الخارطة كيفما شائت مصالحها ، لا بإرادات شعوب المنطقة لتسبب ضياع حقوق دول وضم بعض الاقاليم الى دول أخرى ، ولعل آخر فعاليات الدولة العثمانية في العراق ، وهو تنفيذ مخرجات الأتفاقيات أعلاه بترسيم الحدود العراقية الإيرانية عام 1913 بين الدولة العثمانية والدولة الفارسية . وبعد عدة أشهر شرعت بريطانيا لإحتلال العراق عام 1914. وما يؤشر على تاريخ هذا الحراك لم يكن هناك دولة عراقية ، أي لم يكم هناك مفاوض عراقي ، بل كان يقود المفاوضات نيابة عن الشعب العراقي المحتل العثماني ، الذي رضخ للمطالب البريطانية تبعا لموقف الجيوش من القتال الدائر في عدة جبهات من العالم وحسب التوازنات العسكرية والسياسية في ذلك الوقت وضعف الدولة الذي انعكس على أداء المفاوض العثماني ، لتجري عمليات ترسيم الحدود بإبعاد الحدود العراقية ، عن منابع المصادر المائية وشطر هور الحويزة بين الدولتين ، وضم الكثير من الاراضي العربية الى الدولة الفارسية .

ولم يثر استغلال المياه الواردة الى العراق اية مشكلة قبل تفكيك االدولة العثمانية بسبب وقوع النهر من منبعه الى مصبه تحت سيادة الأمبراطورية العثمانية ، وبعد إنهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية في 29 تشرين الاول 1923 قسمت مجاري الأنهار الصابة في الأراضي العراقية بين ثلاثة دول تركيا سوريا العراق، وبذلك تغيرت طبيعة تقاسم المياه بعد ان كانت من اختصاص الدولة العثمانية وتعتبرها انهار وطنية أصبحت بعد عام 1918 المياه متنازع عليها  بين الدول الثلاثة.

بعد الإحتلال البريطاني للعراق ، عقدت بريطانيا وفرنسا إتفاقية للمياه بوصفهما الدولتين المنتدبتين على العراق وسوريا مع الجانب التركي من اجل ضمان حقوق دولة المجرى الأسفل العراق بوصفها دولة تحت الأنتداب لعقد إتفاقية في 23 كانون الأول عام 1920 .

وتضمنت معاهدة لوزان في 24 تموز 1923 بين تركيا ودول الحلفاء في مادتها 109 بتنظيم المياه عند تحديد الحدود الجديدة وتشيكل لجان لتنظيم الإنتفاع بالمياه بمراقبة تصاريف القنوات والفيضانات وما شابه ذلك من اعمال ، يقتضى العرف القائم بين الدول لتنظيم الإطلاقات التي يوجد منبعها في إقليم دولة أخرى لعقد إتفاق بين الدول صاحبة الشأن للحفاظ على المصالح والحقوق بين الدول المتشاركة بالمياه.

وبعد حصول العراق وسوريا على إستقلالهما قبِلا الأحكام الواردة في المعاهدتين ، كما عقد العراق مع تركيا معاهدة صداقة وحسن جوار في 29 آذار عام 1947 تضمنت ستة بروتكولات ، كان أولها أحكاما تتعلق بتنظيم الإنتفاع بمياه نهري دجلة والفرات ، مع اعتراف البروتوكول في مقدمته بأهمية المحافظة على مياه نهري دجلة والفرات وروافدهما ، بصفة منتظمة ، وتفادي اضرار الفيضانات.

تنظيم المياه

 ويعتبر هذا إتفاق من اهم الإتفاقات التاريخة لتنظيم المياه بين البلدين ، إذ يقتضي البروتكول بزيارة الخبراء العراقين لدراسة وجمع المعلومات ، واختيار المواقع التي تعتزم تركيا إقامة المشروعات التي تثبت ضرورة إقامتها ، على ان يعقد إتفاق منفصل بشأن كل منها وتقوم تركيا بتقديم المعلومات الخاصة بالمشاريع والاعمال التي تنوي تنفيذها في المستقبل على نهري دجلة والفرات وروافدهما ليكون العراق قد استلم الإخطار المسبق ، وتكون هذه المشروعات والأعمال على نحو يوفق بقدر الإمكان بين مصالح تركيا والعراق وبالإتفاق المشترك.  ولكن بعد عام 1957 غيرت تركيا من سياستها المائية وشرعت بالتخطيط لبناء سد كيبان بطاقة خزنية تبلغ 9،4 مليار متر مكعب حسب المذكرة التي وردت العراق من السفارة التركية في بغداد في 7 نشرين الأول 1957 التي تضمنت إشعار العراق بأن تركيا تعتزم تنظيم صرف مياه الفرات وتنمية الموارد والطاقة الكهربائية ، إلا أن تركيا عند الشروع ببناء السد عام 1966 أدخلت تغيرات مهمة في مواصفات السد فقررت ان ترفع السعة الخزنية الى 30،5 مليار متر مكعب أكثر بثلاثة أضعاف في ما جاء بمذكرة السفارة التركية عام 1957، بالإضافة الى ما قامت به دولة الممر الشقيقة سوريا من إنشاء سد الطبقة على نهر الفرات .

إن إنتهاك الحقوق المائية المكتسبة في نهر الفرات من قبل تركيا وسوريا ومخالفتهما أحكام المعاهدات المعقودة بين دول الفرات الثلاث ، والإنتهاك العمدي لمبادىء القانون الدولي المتعلقة بالإنتفاع بمياه الأنهار الدولية ، بإستقلال مياه الفرات قبل التوصل الى إتفاق مع العراق وتحميلهما النتائج الخطرة التي تعرض لها العراق. وفي عام 1976 جرت مفاوضات مهمة مع الجانب التركي والتوصل الى عقد إتفاقية للتعاون الاقتصادي والفني التي تم بموجبها تشكيل لجنة فنية مشتركة للمباحثات بشأن المياه عقدت أولى جلساتها يوم 25 كانون الأول عام 1980 وحتى عام 1992 عقدت اللجان الفنية ستة عشر إجتماعا إلتحقت سوريا إعتبارا من الإجتماع الثالث ، دون التوصل الى إتفاق ، ودون أن تغير تركيا من موقفها إذ مضت في إكمال مشاريعها على نهري دجلة والفرات دون مراعاة الحقوق المكتسبة الى العراق وسوريا.

من هذا السياق التأريخي ندرك بأن المفاوض التركي محتفظ بخفايا المشكلة المائية في العراق من قرون ويجيد اللعب بالوقت والتسويف والتأجيل وتشكيل لجان غير منتظمة الإنعقاد، لكن المواطن العراقي يعول على فطنة المفاوض الوطني وخبراته بوضع الأمور عند نصابها الصحيح بفرز ملف المياه من الملفات للقطاعات المعلنة الأخرى كون المياه لها قوانين دولية ضابطة لتقاسم المياه بصورة منصفة وعادلة وتعمل بتقاسم الضرر، وتشاركية بين الدول المتشاطئة، ولهذا نؤشر وفق هذه الأتفاقات أن تركيا ماضية بتصدير المياه الإفتراضية الى العراق وليست الواردات المائية الحية ، وتسعي للحصول على فرص للشركات التركية لتأهيل السدود والعمل في المنشآت الأروائية وهذا يتعارض مع مقتضيات الأمن الغذائي للبلد، ويؤدي الى خسارة الفرص للحصول على الحصة المائية الكافية وفق القوانين والمعاهدات المختصة بالمياه .

بينما تكون تركيا قد خففت عنها ضغوطات الرأي العام العالمي بأعتبارها دولة تمارس ضياع الحقوق المائية للدول المتشاطئة معها ، وفقدان العراق للعديد من الفرص التي تمكنه من تدويل القضية أمام المنظمات والمحاكم الدولية المختصة بالمياه لتأثر بقية القطاعات المنضوية تحت هذه الإتفاقية ، وكذلك فقدان إشراك الطرف الثالث في الوساطة للإحتكام متى إقتضت الحاجة . وتلاشي البصمة المائية للبلاد.

 

 

 


مشاهدات 63
أضيف 2024/08/16 - 8:43 PM
آخر تحديث 2024/08/18 - 6:16 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 112 الشهر 7331 الكلي 9982875
الوقت الآن
الأحد 2024/8/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير