الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شاهد على إغتيال قلعة كركوك

بواسطة azzaman

شاهد على إغتيال قلعة كركوك

زين العابدين علي صفر البياتي

   تعد مدينة كركوك احدى المدن العراقية الكبرى ،الموغلة بالتاريخ ، وتشتهر بقلعتها الشامخة التي احتضنت نحو 18 حضارة انسانية منذ الالف الثالث قبل الميلاد وبدت كأنها متحف تاريخي للحضارات الانسانية  يوم كانت هذه القلعة مركز المدينة نفسها ،وتركت لنا القلعة آثارا مهمة تعبر عن ماهية مدينة كركوك خلال العصور الماضية بكل ما تحويها من شواخص تراثية.                                                                   

وقد مرت على القلعة كبقية المدن العراقية الاخرى مراحل من القوة والازدهار والنشاط الاقتصادي الى جانب مراحل من الضعف والركود والدمار والتراجع كونها كانت ساحة للصراع السياسي والعسكري بين القوى والشعوب التي هيمنت على العراق عبر تاريخ صراعها وكفاحها من اجل البقاء مع الطامعين بها  .

محيط القلعة

وبعد استتباب الأمن والاستقرار السياسي ونزول السكان الى خارج محيط القلعة تطورت مدينة كركوك وانشات فيها احياء سكنية متكاملة في اطراف القلعة وانتقلت الى الجزء الغربي للمدينة عبر الجسر الحجري الذي انشأ على نهر الخاصة الذي يتوسط المدينة ، وبذلك لم تعد المدينة محصورة بقلعتها التاريخية فيما شغلت مساحة جغرافية متميزة تقدر بحوالي 22 هكتارا في حين تشكل مع محيطها المجاور(السوق الكبير ) نحو 24 هكتارا من الارض الحضرية.                                                                                    

القلعة لها اربعة مداخل رئيسية بمسميات عثمانية( داش قابو اي الباب الحجري، وطوب قابو اي باب الطوب من الجهة الغربية ، يدي قزلر قابو اي باب سبع بنات ،وحلوجي قابو اي الباب الحلوجية من الجهة الشرقية ) وهي تمثل واحدة من الحضارات الستة التركية الاخيرة التي حكمت العراق أكثر من الف سنة.              

وفي عام 1986في ثمانينيات القرن الماضي وخلال عملي كتدريسي بالقسم المدني في المعهد الفني -كركوك ،كانت فاتحة دراساتي بعد نيلي شهادة الماجستير في التخطيط الحضري والاقليمي عام 1984، القيام بالمسح الميداني الشامل للقلعة وذلك باستخدام اجهزة المساحة المختلفة وصور فوتوغرافية واستمارات الاستبيان التي تم توزيعها على عينة من سكان المدينة والذين قدروا  ب 4000 نسمة التي كانت تضم 560 وحدة سكنية ضمن ثلاث محلات سكنية (اغالق وحمام والميدان ) ، وكانت القلعة في هذه الفترة غنية بمبانيها الاثرية ذات القيمة التراثية والمعمارية العالية وما تحويها من عقود واقواس وقباب وزخارف كتابية وهندسية،وكانت هذه المباني فضلا عن قيمتها التراثية تقدم وظائفها الحضرية للساكنين فيها وزائريها ،كما كانت القلعة تحوي على العديد من الدور السكنية الجيدة انشائيا ذات القيمة التراثية المهمة التي قدرت مساحتها في ذلك الوقت بأكثر من 17 ألف متر مربع.في حين كانت المساحات السكنية تقدر بحوالي 42بالمئة من المساحة الاجمالية للقلعة اي 9.3 هكتار التي تشكل 93 الف متر مربع حيث كان الاستعمال السكني بحالة غير مستقرة بحيث اخذ يتقلص يوما بعد اخر بسبب زيادة نسبة الدور المتهدمةنتيجة تسرب المياه الى اسس مبانيها لانعدام المجاري الصحية  وسوء تصريف مياه الامطار التي احدثت فجوات تؤدي الى انهيارات مستمرة في اسس مبانيها فضلا عن اهمال الصيانة لانخفاض المستوى المعاشي للسكان بسبب انشغال العراق بحروب عبثية مدمرة مع ايران ومن ثم حرب الخليج الاولى والحصار الاقتصادي لغاية 2003 اضافة إلى الاهمال المتعمد من قبل الدولة (النظام السابق ) لحقدها الدفين على ساكني القلعة وتاريخهم العريق ، لذا حرمت القلعة من التخصيصات المالية من الموازنة السنوية للحفاظ على المباني التراثية فيها وادخال الخدمات الاجتماعية والفنية ، ما أدى إلى  التدهور العمراني يوما بعد آخر بحيث وصلت نسبة الدور الجيدة انشائيا فيها بحوالي 4بالمئة من اجمالي الدور السكنية القائمة ضمن الخطة الخبيثة الممنهجة المتعمدة لاخلاء القلعة من سكانها الأصليين المعروفين للجميع ،بينما قدرت نسبة الدور السكنية التي تعد بحالة انشائية متوسطة الحال  بحوالي 45بالمئة التي كانت بحاجة ماسة الى الترميم والصيانة لكي تؤدي وظيفتها السكنية بأكمل صورة في تحمل الاثقال ومقاومة المناخ والطبيعة لفترة أطول ، ولكن هذا لم يحصل بسبب عجز السكان عن القيام بالصيانة مما اضطروا الى ترك بعض اصحابها الشرعيين لبيوتهم وعرضها للايجار والانتقال الى بقية احياء المدينة ونال هذا الاجراء دعم وتشجيع الحكومة للوصول إلى الاهداف المرسومة لها وهي القضاء عليها والعمل على ازالتها  وبالتالي لتحويلها الى قصور رئاسية ! في وقت كانت فيه نسبة 8بالمئة من الدور السكنية هي دور تراثية لها قيمة تاريخية ومعمارية فتم صيانة 4بالمئة منها فقط في تلك الفترة من قبل الهيئة الفنية لتطوير القلعة ،وفقا لما اشارت اليه الدراسة الميدانية بان 31بالمئة من الدور السكنيية بحالة انشائية رديئة جدا تشكو من رطوبة مزمنة وانعدام التهوية والاضاءة الطبيعية وتفتقر الى شبكة المياه الصحية والمجاري ، وكان هذه الدور تمثل حوالي 58 ألف متر مربع من ارض القلعة. بينما 22بالمئة  (48 الف متر مربع ) من القلعة كانت أراضي مفتوحة ناتجة عن تهدم الدور السكنية بمرور الزمن ،وان وجودها غير المنظم كان له تاثير كبير على حياة ساكني القلعة نفسيا وصحيا واجتماعيا. وكانت نسبة 6بالمئة من مساحة القلعة اي 13 الف م2 عبارة عن اراضي خضراء  تقع على واجهتها الشمالية وعلى سطوحها المدرجة فكانت الوسيلة المتنفسة للقلعة وهي في طريقها الى الجفاف بسبب الاهمال .أما الشوارع الرئيسية فقد كانت تشكل 10بالمئة من مساحة القلعة والتي كانت عبارة عن شوارع حولية رئيسية واخرى مارة من خلالها ،كما ان 12بالمئة من المساحة الكلية للقلعة كانت عبارة عن ازقة ضيقة ملتوية وبعضها غير نافذة.وكانت الحرفيات والاعمال التجارية تمثل حوالي 8بالمئة وهي عبارة عن محال تجارية تعرض منتجات ذات الاستهلاك اليومي وصيانة الاجهزة المنزلية .كما كانت في القلعة مدرستان ابتدائيتان احدهما في وسطها والاخرى في الجانب الغربي منها وبناياتها محورة من دور سكنية ن وكانت القلعة تخلو من المدارس الثانوية والروضة وملاعب الاطفال والمكتبات....  هذه المعطيات والمعلومات التي توصلت اليها الدراسة تم نشرها من قبلنا في مجلة المورد - العدد الاول-المجلد الثامن عشر في عام 1989 التي كانت بمثابة صرخة مدوية كبيرة من قبل الباحث التركماني ودعوة صادقة بضرورة الاهتمام بالقلعة وصيانتها والحفاظ عليها من الضياع والتهميش،  والتي تم تضمينها عددا من المفترحات والتوصيات بهدف تطويرها وتاهيلها تحت عنوان ((التجديد الحضري لقلعة  كركوك)) وعلى الرغم من هذه المناشدات والدعوات للحفاظ على هذه القلعة التاريخية وتطويرها ، خصص النظام السابق في ظل الحصار الاقتصادي والجوع والحرمان واغتيال كرامة الانسان وحاجة العراق الماسة الى المال خصصت الدولة (250 ) مليون دينار لعمليات هدم أحياء القلعة عام 1998 !((نشرت صحيفة صوت التأميم في عددها المزدوج السادس والسابع 1998 ما يلي : تنفيذا لأمر الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله تتواصل في محافظة التأميم أعمال رفع الأنقاض وصيانة الأماكن الأثرية التي سيتم الابقاء عليها في قلعة كركوك وذلك بتخصيص مبلغ 250 مليون دينار وستقوم لجنة رئيسية تضم في عضويتها مجموعة من الكوادر المتخصصة في ديوان المحافظة ودائرة آثار التامييم لغرض تنفيذ العمل بطريقة أمانة وباشراف الفريق الركن اياد فتيح خليفة الراوي محافظ التأميم وسيتم انجاز هذه المهمة خلال فترة زمنية أمدها 70 يوما)) فيما تولت لجنة هندسية من ديوان الرئاسة بدراسة واعداد المخططات لتحويل قلعة كركوك الى قصور  رئاسية ( وفقا لاحد الزملاء التدريسيين المهندسين الذي كان ضمن الكادر التدريسي في المعهد الفني  كركوك والذي كان عضو اللجنة المذكورة )وقد اطلعت شخصيا من خلاله على المخططات الرامية لاغتيال القلعة واجتثاث تاريخ حواضرها وتسليمها أرضاً إلى  ديوان الرئاسة  .

حجة التعويض

وبموجب هذا القرار الذي كان يقضي بهدم جميع بيوت القلعة والتي تشغل مساحة 200 م2 فما دون ، ما ادى هذا العمل الجائر الى تشريد سكان القلعة الاصليين بحجة تعويضهم بمبالغ زهيدة لا تتناسب مع اقيام عقاراتهم وفي احياء بعيدة من مركز المدينة وزجهم في مناطق ذات اغلبية مختلطة من قوميات اخرى بهدف القضاء على علاقات الجيرة الطيبة وروح التعايش التي توارثوها عبرالاجيال مع بعضهم البعض وبجوار الاماكن المقدسة في القلعة (جامع النبي دانيال وجامع العريان والجامع الكبير وآثار كنيسة الاحزان وغيرها) .

وبعد سقوط النظام البائد عام 2003 تأمل الناس خيرا لاسترداد حقوقهم المسلوبة !ولكن بعد مرور أكثر من عشرين عاما لم تفكر الحكومات المحلية بوضع خطط وبرامج للحفاظ على القلعة وتطويرها ولم يتم وضع حجر على حجر في القلعة (عدى ترميمات منظمة تيكا التركية مشكورا لجامع النبي دانيال والمقبرة العثمانية فوق القلعة والسوق القيصرية أسفل القلعة )، بل بالعكس تم استثناء القلعة من مشروع التجديد الحضري لمركز مدينة كركوك عام 2012 والذي احيل الى شركة كندية عام 2013 ، كما تم استثناء القلعة مرة اخرى في مشروع تحديث التصميم الاساسي لمدينة كركوك عام 2014 ولغاية عام 2037 والذي احيل الى شركة كركوك كلوبل الأمريكية وشركة دار العمران الاردنية  .                                                                          

 ونظرا للغبن الكبير الذي وقع على القلعة  من الاهمال والتهميش المتعمد في ظل النظام السابق وانسحب الأمر على النظام الحالي ايضا .  وبهدف احياء المعالم الحضارية والتاريخية للقلعة وتحويلها إلى معلم حضاري ومتحف تراثي وقبلة سياحية تجتذب السياح وتحرك الاقتصاد ، قررنا العمل والسعي لذلك من خلال منظمات المجتمع المدني وفق القانون فاجتمعنا مع مجموعة من الاكاديميين والمثقفين واتفقنا على تأسيس جمعية(( قلعة كركوك للدراسات التراثية والحضرية )) فحصلنا على اجازة رسمية من منظمات المجتمع المدني التابعة لامانة مجلس الوزراء عام 2023 كي تمارس هذه الجمعية وظيفتها كمحامي للدفاع عن حقوق القلعة والحفاظ عليها من الزوال تمهيدا لتسجيلها ضمن لائحة التراث العالمي اليونسكو..                                                          

آملين من الحكومة المركزية ووزارة الثقافة والسياحة والآثار والوزارات المعنية الأخرى و الحكومة المحلية في محافظة كركوك التعاون مع جمعيتنا وتقديم الدعم اللازم في سبيل احياء هذا المشروع العراقي الحضاري العريق ، بهدف خلق رئة سياحية تاريخية وتراثية عراقية في مدينة كركوك الحبيبة والعمل على تسجيله في لائحة التراث العالمي


مشاهدات 206
أضيف 2024/05/10 - 9:49 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 12:55 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 306 الشهر 11430 الكلي 9361967
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير