الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين تُهدم الكرامة في وضح النهار

بواسطة azzaman

حين تُهدم الكرامة في وضح النهار

ثامر محمود مراد

 

في المجتمعات التي تعاني من أزمات حكم وإدارة، يصبح من الصعب التفريق بين من يطلق الرصاص ومن يضغط زر الجرافة. كلاهما يسلب الحياة، أحدهما يسرق الأرواح، والآخر يفتك بالكرامة، ويجعل الألم مقياسًا لمدى «سلطته» لا «عدله». في بلد مثل العراق، حيث الأم الثكلى لم تجف دمعتها بعد، وحيث الوطن ما زال يرتق جراحه، تأتي مشاهد الطرد من البيوت، وهدم المساكن فوق رؤوس الضعفاء، كصفعة جديدة على وجه الإنسانية.

حين تلتفت أم شهيد إلى أم شهيد آخر، لا لتعزيها بل لتواسيها بألم آخر، نكون أمام مأساة تتجاوز اللغة. ليس هناك وجع أعمق من وجع أمٍ تعيش ما بعد الفقد، وتراقب كيف تُنتهك كرامة من بقي من عائلتها. هذه ليست فقط معاناة فردية بل صرخة جماعية لأمة تئن من الظلم المزدوج: ظلم الموت، وظلم الحياة بعد الموت.

الإدارات المحلية، حين تنزع من القرارات روح العدالة والرحمة، تتحول من جهة راعية إلى أداة هدم، لا تختلف عن أدوات القتل المباشر. من يهدم بيتًا فوق أسرة فقيرة دون بديل، لا يختلف كثيرًا عمن يرمي القنابل فوق الرؤوس. الجرافة، حين لا تسبقها خطة إنسانية واضحة لإيواء الناس، تتحول إلى سلاح في يد الجهل، تُستخدم لتدمير ما تبقى من أمل.

الاحتجاج على التجاوزات لا يعني بالضرورة الاعتراض على القانون، بل هو موقف ضد الطريقة اللا إنسانية في تطبيق القانون. من السهل إصدار الأوامر من وراء المكاتب، لكن من الصعب سماع صرخات العجائز وهم يُنتزعون من بيوتهم دون مأوى، من الصعب النظر في عيون الأطفال وهم يقفون وسط الركام يسألون: «أين بيتنا؟».

حاكم ومحكوم

من المؤسف أن يصل الحال في بعض المدن، إلى أن يُعامل المواطن وكأنه عدو، لا شريك في الوطن. بينما يُفترض أن يكون المسؤول خادمًا للشعب، يصبح أداة قهر تنفذ أوامر جافة لا تعرف للرحمة طريقًا. ولا يخفى على أحد أن استمرار هذا النهج يولّد قطيعة بين الحاكم والمحكوم، ويزرع في النفوس مزيدًا من الغضب واليأس.

إن ما نراه اليوم من ممارسات قاسية تجاه الفقراء وأصحاب السكن العشوائي، ليس سوى انعكاس لفشل متراكم في التخطيط العمراني والاجتماعي. حين يُترك المواطن لعقود دون سكن كريم، ثم يُرمى خارج ملجئه الوحيد بحجة «رفع التجاوز»، تكون الدولة قد تخلت عن أبسط واجباتها: تأمين الكرامة قبل القانون.

ليس المطلوب تبرير الفوضى أو حماية المخالفين، بل الدعوة إلى حل متكامل وعادل، يبدأ بتوفير البديل المناسب، وتنتهي عند سياسة سكن تحترم الإنسان. فالأم التي فقدت ابنها في الحرب، والتي كانت تنتظر أن تُكافأ بتقدير، لا يمكن أن تُجبر على مغادرة بيتها بتهديد الجرافات وصراخ الشرطة.

إن صوت الأمهات لا يجب أن يُقابل بالصمت أو السخرية، بل يجب أن يكون جرس إنذار لكل مسؤول ما زال يعتقد أن المنصب حصانة من المحاسبة. إن دموع العجائز، وصراخ الفقراء، تظل أقوى من أي شعار حكومي. التاريخ لا يرحم من استخف بصرخة مظلوم، ولا من هدم بيتًا بغير وجه حق.

ختامًا، ما يجري ليس تنفيذ قانون، بل استعراض قوة على أضعف الحلقات في المجتمع. وإن لم تكن هناك نية حقيقية لإصلاح جذور الأزمة، وتوفير البدائل الكريمة، فإن لعنة الظلم ستبقى تطارد أولئك الذين جعلوا من السلطة سلاحًا لا رسالة. الوطن لا يُبنى بالهدم العشوائي، بل بالإصلاح المسؤول، والحلول المتوازنة، والقلوب التي ترى قبل أن تحكم.


مشاهدات 247
الكاتب ثامر محمود مراد
أضيف 2025/06/02 - 3:27 PM
آخر تحديث 2025/06/04 - 5:32 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 432 الشهر 4154 الكلي 11138808
الوقت الآن
الأربعاء 2025/6/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير