الحنكة والحكمة في التصرف الإيراني
فؤاد مطر
جاءت الثؤيرة ليلة الأحد 13 أبريل/ نيسان 2024 رداً من إيران على أكثر العمليات الإسرائيلية ضد إيران الثورة نظاماً على أرض سورية متناثرة وفي قلب دمشق العاصمة المتوارثة الهويات الوافدة والمدعوة (الأموية. العثمانية. الفرنسية. المتعددة الملامح الإنقلابية. القوتلية _ الناصرية. البعثية _ الأسدية. الإيرانية _ الروسية إبناً بعد أب) تؤكد من جهة أن إيران ترجمة لتصريحات في أعلى درجات التحدي لفظاً بأمل تحويله فعلاً ، لا بد أن ترد الصاع صاعيْن وربما أكثر على العملية التي إستهدفت نخبة من قيادات حرسها الثوري كانوا في مبنى قنصلية إيران في دمشق أو في مبنى سكني تابع للقنصلية ويجاور مبناها يتم إستعماله عند إستضافة القيادات المتقدمة في الحرس الثوري ويستوجب الحرص عدم إقامتهم في فنادق، ذلك أن إسرائيل درجت على إعتداءات تقوم بها طائرات تخترق الأجواء اللبنانية ذهاباً للضرب وإياباً من تنفيذ عمليات في العاصمة دمشق وضواحيها وفي مناطق من الساحل السوري وتستهدف هذه الإعتداءات قيادات متقدمة في الحرس الثوري وعناصر متقدمة في «حزب الله» تتوجه من لبنان للتشاور أو لتسلُّم تعليمات وشحنات من السلاح والذخيرة يتم نقلها إلى مناطق في الجنوب والبقاعات البعلبكية حيث النفوذ القوي والمؤثر عند الإستحقاقات للحزب.
والقول إن الذي حدث هو ثؤيرة، أي أنها لم تكن ثأراً كالذي قيلت في شأنه عبارات تحذيرية رداً على عملية القنصلية في دمشق مثل قول كبير المستشارين العسكريين للمرشد خامنئي إن السفارات الإسرائيلية لم تعد آمنة بعد الذي حدث للقنصلية في دمشق والتي كان سبعة من ضباط الحرس أبرزهم العميد محمد رضا زاهدي لقوا حتفهم في تلك العملية الشبيهة بعملية تصفية صالح العاروري أحد قادة حركة «حماس» الذين يترددون على لبنان وينشطون سياسياً وإعلامياً منه، وذلك في شقة إحدى العمارات في الضاحية الجنوبية من بيروت.
بل حتى رمز الدبلوماسية الإيرانية وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان من خلال جولة سبقت عملية الصواريخ والمسيَّرات وشملت العاصمة العُمانية مسقط ودمشق على أن إسرائيل إستهدفت مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق بأسلحة أميركية، وهو بإكتفائه الإشارة إلى السلاح وتفادي القول إن العملية تمت بضوء أخضر ساطع أو خافت لا فرق من جانب الإدارة الأميركية كمن يتعمد التمني على هذه الإدارة أن تعتبر الثأر من جانب إيران على عملية القنصلية يستهدف إسرائيل فقط وبالتالي فلا يكون رد الفعل الأميركي أن ما يصيب إسرائيل يؤلم إدارة بايدن التي تعاملت مع حرب الإبادة والتهجير والتجويع من جانب إسرائيل نتنياهو وكأن الغزيين هم مثل الهنود الحمر في الزمن الأميركي الغابر وأن ما تفعله إسرائيل بالغزيين هو نوع من الدفاع عن المصير.
لقد سبقت عملية الصواريخ والمسيَّرات الإيرانية تهديدات كلامية كثيرة لم تأخذ طريقها إلى ترجمة القول إلى فعْل منذ عملية تصفية قاسم سليماني رمز الحضور الإيراني المسلح في دول وكيانات عربية تصلح أحوالها وتركيبتها السكانية لزرع ظاهرة الحرس الثوري مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين الغزية التي بات شأن كل من «حركة حماس» و «حركة الجهاد الإسلامي» أقوى من شأن «السلطة الوطنية الفلسطينية» التي تستند من حيث القدرات إلى «حركة فتح» والتي لم تعد بثورية الستينات والسبعينات وباتت كوادرها على درجة من الترهل فضلاً عن أن حراك سُلطتها بات مقتصراً على الشأن السياسي ثم تأتي عملية الصواريخ والمسيَّرات المفاجئة من حيث الوسائل وليس من حيث الفعل لترمي في ساحة الصراع الحاصل في الإقليم وبالدرجة الأهم منه الجانب الفلسطيني _ الإسرائيلي من هذا الصراع، أن الجانب المتصل ﺒ «الحرس الثوري» في الجمهورية الإسلامية بات قوة ضاربة في أجزاء من الوطن العربي، وأنه بات يملك من القدرات العسكرية وبالذات ما يتصل بالتصنيع ومنها مسيَّراته التي حتى بعملياته التي إستهدفت قاعدة إسرائيلية بالغة الأهمية كانت توصيفاً عملية ثؤيرية، أي ليست الثأر الذي عكستْه عشرات التصريحات أدلى بها كبار أهل الحكم في إيران ومنهم المرشد خامنئي نفسه الذين إعتبروا إسرائيل دولة باتت على أهبة طريق الزوال.
تبدو عمليات الصواريخ والمسيَّرات من حيث الفعل وعنصر المفاجأة مثل تلك العملية التي نفذَّتها حركة «حماس» يوم السبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 وأشعلت حرب الإبادة والتهجير والتجويع المستمرة نتيجة خشية نتنياهو من عوائد إيقافها أو إرتضاء تسوية ترضي القتيل وتفرض أميركا وحليفاتها على القاتل الإرتضاء والتسليم بصيغة الدولتين حلاً لا حل غيره.
عقدة الصواريخ
كما أن هذه العملية تزيل من المشهد الراهن عقدة الصواريخ التي أمر الرئيس (الراحل) صدَّام حسين بتوجيهها إلى إسرائيل فيما إيران الثورية لا تفعل خطوة مماثلة. وها هي قد فعلت مع الأمل بأن لا تدفع ثمناً كالذي أدفعه للعراق نظام صدَّام حسين. وهذا رهن إقتناع الإدارة الأميركية بالتفسيرات الإيرانية بأن عملية الصواريخ والمسيَّرات هي رد محق على عملية القنصلية في دمشق يوم الإثنين 1 أبريل/ نيسان 2024 (أي قبل ثلاثة عشر يوماً من الثؤيرة ليلة الرابع عشر من الشهر نفسه) وأن أي دولة بمن في ذلك الولايات المتحدة يمكن أن تعتمد مبدأ الرد بالمثل أو ربما شبيه له في حال حدث إستهداف لرموز وطنية سيادية في أي مكان. وكانت إيران بمرشدها ورئيس جمهوريتها وحرسها الثوري وقيادة قواتها المسلحة متنبهة سلفاً وحريصة على التوضيح ومن هنا أخذت بصيغة الرد على أن يكون ثؤيرة تستهدف القاعدة التي إنطلقت منها الطائرات التي دمرت مبنى القنصلية وتفادي إستهداف أحياء سكنية ومدارس ومشافي، وترْك أمر إعتبار العملية ثأراً كامل الأوصاف إلى منابرها الإعلامية في الداخل والخارج.
وهذا إلى أن يستتبع الفعل الثؤيري وفي مدى ليس بعيداً ما هو ثأر من جانب إسرائيل يداوي به رئيس حكومتها نتنياهو ما أمكن مداواته لجراحه ومخاوفه نتيجة إتساع فجوة التوافق بينه وبين الحليف الأميركي وسائر المتعاطفين معه الذين يرون أنه لولا عملية القنصلية لكانت عملية الصواريخ والمسيَّرات لن تتم. وهؤلاء ربما يرون في الفعل الإيراني نوعاً من لمس خفيف لقواعد لعبة الصراع في المنطقة وملامح من رجاحة التخطيط ودقة التصرف بحنكة وحكمة المقتدر. وإعتماد العملية ثؤيرة.. وليست ثأراً وفق قاعدة العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.