التضاريس الجغرافية في جبهات القتال في حرب الثمانينات لم تكن خطوطا مستقيمة ، فترى الألوية والافواج المنتشرة على طول الجبهة متداخلة ،ولكن يتم الحشد بقطعات كبيرة واحتياطية بناءا على المعلومات الاستخبارية المتحصلة ،ولعبت الأقمار الصناعية دورا مؤثرا في ذلك ،وكانت المعلومات تأتي من عدة مصادر بعضها “توريطية مخادعة” والبعض الآخر يندرج في إطار خطط المناورة العسكرية للعدو ،فهو يلجأ أحيانا إلى تحريك قطعات بحجم كبير كأسلوب مناورة للتمويه على مكان الهجوم الحقيقي ،وعند حدوث المباغتة ووضوح مكان الهجوم الحقيقي تقع القيادات العسكرية المسؤولة في حرج شديد امام القيادة العليا ،فتقوم بمسابقة الزمن وتزج بكل احتياطياتها في مكان الخرق الرئيسي وتستعين بالسلاح الجوي والمدفعية لتثبيت نقاط الخرق وإيقاف توغل الطرف المهاجم .
وقد جرت عدة حوادث مؤلمة جدا وعلى نطاق ليس محدودا ،ففي قاطع “مجنون” بجنوب العراق على سبيل المثال يكون وضع القطعات العسكرية مع قطعات العدو متداخلا و يصل إلى حد مستوى الفصائل ،ويطلق على القطعات المتغلغلة تسمية الحجابات الدائمة ،وتكون أحيانا بمستوى سرية عسكرية ،بحيث تكون جبهة قتال تلك السرايا بزاوية 270 درجة أو أقل بقليل،حيث يكون العدو امامها وعلى جوانبها أيضا ، والعدو يتربص بتلك المواضع واحيانا يقوم بقطع طريق الإمداد لتلك الحجابات الدائمة بسد ناري مستمر ثم يباغت بهجوم صغير وخاطف ليتم أسر المقاتلين ،وعند حدوث الهجوم يسبق ذلك مشاغلات نارية بالرشاشات المتوسطة والهاونات ورميات مدفعية متوسطة، وتحدث تلك المشاغلات النارية لعدة مرات وبأوقات مختلفة للتغطية على توقيت الهجوم الرئيسي ،بحيث يبدو الهجوم وكأنه فعالية نارية معتادة ،والخطأ القاتل للقطعات المدافعة أنها ترد على الهجوم بأنفعال شديد ويتم استنفاذ مخزونها من العتاد والقنابر بسرعة ،وبنفس الوقت يتم قطع طرق الإمداد بالسدود النارية للمدفعية ،فيتعذر تعويض العتاد المفقود فما يكون من الحجابات الا الاستسلام وهو خيار أهون من الموت وبعد أيام يكتشف الأسرى أن الموت السريع أهون بكثير من الاستسلام ، وقبل اجتياح العدو لقطعات الحجابات بدقائق تتخذ القيادة الميدانية لمركز اللواء المسيطر على تلك القطعات قرار هو من اسوأ الاختيارات العسكرية في كل جيوش العالم ، القرار الاسوأ والمشين هو قصف القطعات العسكرية الملتحمة مع العدو وإبادتها مع العدو بضربات مدفعية شديدة ومركزة ،لأن إعطاء موقف للقيادة العامة بسقوط ستين مقاتلاً أو أكثر أسرى بيد العدو يضع أمر اللواء وقائد الفرقة تحت المسائلة الشديدة ،اما إعطاء موقف باستشهاد سرية كاملة أثناء الاشتباك مع العدو فيجنب القيادة المحلية اية مساءلة بل يتم تكريمهم أحيانا ،وهناك مصطلح شعبي عسكري طالما تم تداوله في مثل هذه الحالات وهو عبارة (أخبط) وأخبط تعني أضرب بقوة العدو ومقاتلينا وأرسل الجميع للموت المحتم ،وهذا ماكان يخشاه جدا مقاتلو الحافات الأمامية ،وانا على يقين ثابت أن القيادة العامة تعلم بذلك وتغض النظر ، وفي الجيوش الرصينة يتم تقديم المسؤولين عن هذه المذابح إلى محاكم عسكرية لا بل وتصدر بحقهم عقوبات تصل إلى الإعدام ،هذه صفحات مطوية من مآسي حروبنا المستمرة التي فرضوها علينا و أفنينا أعمارنا بها.