النـص : بشـرى البستاني من النظم الى البحث الإكاديمي 1 - 2
عــــذراء الشعر المتيمة بحب العراق
هدير الجبوري
عندما كنت أسمع من احدهم أن كلماته تتوه وهو في حضرة فلان من الناس كنت اتساءل مع نفسي أهذه حقيقة فعلاً ام مجرد كلام ليس إلا.. لكني تيقنت من صدق ذلك عندما وطأت قدمي بيت شاعرتنا الكبيرة الدكتورة بشرى البستاني في أيسر مدينة الموصل وكلي تلهف للقياها وتلعثمت في فمي الكلمات وأنا اتقدم لأحييها عندما خرجت لترحب بي.. احسست ان كل شيء مميز في الشارع الذي تسكنه حتى النخلة الباسقة التي تتوسط الواجهة الخارجية للبيت فقد كانت كبيرة وشامخة كشموخ صاحبة الدار التي كنت اظنني سأجدها متجهمة الوجه وصعبة المراس عندما سألقاها. لكنني رأيت أمامي وجهاً جميلاً ينطق بالطيبة، وابتسامة عفوية تعلو ملامحها وترحب بالضيف قبل يديها التي مدتها لي مرحبة بي بحرارة ووجدت في وجهها حكايا كثيرة قالتها لي عيناها التي تحكي دون كلام .كل شيء في بيتها مصر أن يحكي لك عن مسيرتها الطويلة من الابداع والبهاء والثقافة ...حتى الاثاث الموزع بشكل منسق ينطق شعراً كأنه يريد ان يكلمك ويحكي قصة صاحبته.
أكداس كبيرة من الكتب ضمتها مكتبات مرتبة عديدة في البيت، في الغرف والصالون والمطبخ الكبير، وأكداس أخرى موزعة على الطاولات وأول ما تبادر الى ذهني شيئان الاول تساءلت مع نفسي متى تمكنت هي من قراءة كل هذه الكتب. والثانية راودتني أمنية بأن تُنقل كل هذه الكتب الثمينة الى مكتبة كبيرة في مدينة الموصل يتم أفتتاحها واستحداثها بأسم الدكتورة بشرى البستاني إكراما لتميز هذه المرأة العراقية وتكون ملكاً ادبياً ومرجعاً لطلبتها ومحبيها ولكل متذوقي الادب والشعر والثقافة والنقد الادبي وباشرافها هي أو بإشراف الدولة والتعليم العالي كما تفعل الدول المتقدمة مع مبدعيها .
أحببت أن يكون حديثي أقرب للدردشة العفوية القريبة للقلب لا تحقيقاً صحفياً روتينياً لأنها أكبرمن ان يكون حواري معها محصوراً بمجموعة كلمات في تحقيق معين.
ومن كرم لطفها وحلاوة تعاملها ناولتني جهاز الحاسوب الخاص بها وطلبت مني ان أنقل منه كل ما هو مفيد لي من معلومات عن السيرة الذاتية والعلمية لها وأسماء عناوين مؤلفاتها وكتبها وحتى أغلقه هذه الكتب التي احتفظت بها بحاسوبها الشخصي.
مدينة أصيلة
وبدأت اطرح عليها اسئلتي التي كانت سبب قدومي لرؤيتها لأني تمنيت ان أسمعها منها مباشرة دون وسيط بيننا أو تسجيل صوتي كما معتاد باللقاءات الصحفية وبدأتها بالسؤال الأهم لكي أعرف من هي حقاً....
{ من هي الدكتورة بشرى البستاني وأين نشأت؟
- أنا إنسانة مجروحة بالظلم الواقع على وطني وشعبي، وعلى إنسان هذا العصر، ومنهمكة بمحاولة تضميد ما أستطيع من جراحات. ولدتُ ودرست من الروضة حتى نهاية الأعدادية في مدينة الموصل بالمدينة الأصلية الأصيلة في شارع الفاروق أهم شوارع الموصل وأقدمها أصالة وسكاناً، ذلك الذي أنجب الكثير من المبدعين الموصليين شعراء وفنانين وقادة عسكريين ووزراء وإداريين من أبناء هذه المدينة العريقة، عائلتي كانت مهتمة بالعلم والقيم الوطنية حيث درست أنا واخوتي علوم القرآن الكريم والحديث منذ الصغر وهذه الدراسة قادتني للاهتمام بعلوم اللغة العربية ومنجزها الادبي والجمالي، كذلك ساعدتني في التركيز والعناية بدراسة كل ما يحيط بالشعر والقصة القصيرة والرواية والفلسفة والتاريخ .
{ أين اكملتِ دراساتك ؟ وهل بدأت لديك بوادر الاهتمام بالشعر والادب بأول الطريق عندما كنت طالبة جامعية؟
- أكملت المراحل الدراسية لغاية الأعدادية في مدينتي الموصل، وقد أذهلني تعلم القراءة والكتابة في وقت مبكر، وشغفني حباً فصرت لا أفارق الكتاب ولا الدفتر والقلم، وبعدها سحرتني الدلالات أهز كتف أمي لتترك عملها وتلتفت إليَّ أسألها عن معنى ما أقرأ، أحس والدي باندفاعي وسهري وأنا أملأ صفحات دفاتري بكتابة واضحة الحروف لتعجب أمي ومعلمتي، فأمر والدتي أن تواصل تدريسي سور القرآن الكريم وحفظها يوميا. غادرتُ الموصل بعد اكمالي الدراسة الاعدادية الى بغداد لأكمل فيها دراستي الجامعية في كلية التربية / قسم الادب العربي.
{ هل بدأت لديك بوادر الاهتمام بالشعر والادب بأول الطريق عندما كنت طالبة جامعية ؟
- لا،لا، بدأت مبكراً قبل الجامعة بكثير وتم اختياري سكرتيرة لتحرير المجلة الخاصة بالكلية وهذا الاختيار كان من قبل الكادر التدريسي لشغفي الكبير بالشعر والكتابة الادبية وأثناء دراستي تم اختياري لأكون مسؤولة لصفحة أدب الشباب في صحيفة تدعى (كل شيء ) كانت تصدر في بغداد.
{ كيف وقع الاختيار على بشرى البستاني لتسلم مسؤولية صفحة ادب الشباب وهل كان وراء ذلك قصة ما؟
-- كانت تصدر آنذاك في كلية الهندسة / جامعة بغداد مجلة خاصة بالشعر والأدب وكان المشرفون عليها من الشباب يعرفون انصرافي للأدب والشعر، ومنهم الشاعر الدكتور عبد الحق العاني والشاعر الأستاذ رضا الصخني اللذين نشرا لي نصاً وهما اللذين دلا الأستاذ حميد المطبعي رحمه الله وكان رئيس تحرير مجلة ( الكلمة )في النجف وجاء خصيصاً الى كليتنا لغرض الحصول على قصيدة مني كي ينشرها في المجلة، وفعلا حصل ذلك، وكان مبعث فخر لكليتي آنذاك .
- - ما هي اول قصيدة نُشرت لك في صحيفة او مجلة أدبية رسمية ؟
- (وجه القمر) كانت قصيدتي الاولى التي ُنشرت في مجلة الأقلام التي تصدر في بغداد عن وزارة الثقافة، وهي مجلة رصينة معروفة آنذاك على مستوى الوطن العربي وما زالت، والقصة بدأت بشكل عفوي اشتريت عددا من مجلة الأقلام وعدت للقسم الداخلي فدخلت صديقتي وبدأت تقلب المجلة وتقرأ بعض قصائدها ، وإذا بها تلتفت إلي وتقول بإصرار، غدا نذهب بقصيدتك الأخيرة لهذه المجلة، وكنت بحوالي الـ 18 عاماً. وفعلاً ذهبنا للمجلة ولا أنسى التعامل الأبوي الرائع الذي استقبلني به رئيس التحرير،وبعد أن قرأ القصيدة أكد لي أنها ستنشر في العدد القادم.
{ من كان يقف وراء إلهامك وفي عمر صغير بنشر هكذا قصائد معبرة في مواضيعها واختيار كلماتها؟
أمي رحمها الله كانت تحتفل أي احتفال بكل ما أكتب وأنا في الخامس والسادس الابتدائي، وفي المتوسطة استلمتني مدرسة رائعة رحمها الله، هي الأستاذة قمر كشمولة، تأتيني بالكتب والمختارات من الشعر العربي، وفي الدراسة الإعدادية استلمتني مدرسة أمٌّ أخرى رائعة هي الأستاذة سعاد شيت خطاب شقيقة القائد العسكري محمود شيت خطاب رحمهم الله جميعا، أما والدي فصارت مهمته شراء الكتب والدواوين والقواميس لأقرأ دون انقطاع.
{ بعد انهاء الدراسة الجامعية في بغداد وعودتك الى مدينتك الأم
( الموصل ) اين كان تعيينك الاول وما تلاه ؟
- عُينتُ في البدء باعدادية الموصل المركزية ومن ثم اكملت الدراسة التحضيرية للماجستير في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبسبب قطع العلاقات بين العراق ومصر لاسباب سياسية آنذاك أمرت الحكومة العراقية بعودة كل الطلبة، ويومها فتحت الماجستير بجامعة الموصل / كلية الآداب التي أكملت فيها الماجستير والدكتوراه وتخصصت بالنقد الادبي، وعُينت حينها تدريسية في نفس الكلية التي بقيت فيها لغاية أحداث الموصل 2014 ومغادرتي العراق لعمان.
{ لماذا تخصصتِ بموضوعة النقد الادبي حصراً؟
- -لأنها الأساس في التمييز والمقارنة بين الأدب الجيد وسماته ومناهجه من غيره الذي لا يمتلك أدواته الرصينة، كما أن تخصصي في النقد ساهم في تطوير أدواتي الإبداعية والعلمية معاً وزودني بكل ما يفيد طلبتي في الدراسات العليا ومشروعي الشخصي.
{ دكتورة بشرى ما هي برأيك إيجابيات وسلبيات التداخل بين الوضع الاكاديمي للشاعر والاديب وحياته عموماً ؟
- الايجابيات تتمثل بصورة رئيسة في الحوار المباشر دوماً وجهاً لوجه مع الشباب من الطلبة ومتابعة الكتب والمصادر الجديدة التي تبقي التدريسي في تطور علمي دائم فضلاً عن كوني لا أشعر بوطأة الزمن أو ثقله لأن حضور الشباب حولي يمنحني إحساساً حقيقياً بشباب ونشاط عارمين، وأول السلبيات الاكاديمية على الشاعر والأديب هي كونها تبتلع زمن الشاعر والمثقف لان جل اهتمامه ينصب على عمله الأكاديمي المتفرغ له ولطلبته ولمناقشاته العلمية المستمرة ودراساته ومصادره. إن أي موظف رسمي له زمن محدد للعمل في دائرته إلا الأستاذ الجامعي فإن له واجباتٍ مهمة حال رجوعه من عمله الجامعي لداره، إذ يبدأ في داره ليلا عملٌ أكاديمي مهم آخر.
{ سؤالي هو، مازلت تواصلين مسيرتك المثابرة بالرغم مما مرَّ بالمدينة من حروب وكوارث، وبالرغم من كل هذه المسيرة الطويلة والتميز والشهرة العلمية والادبية التي حصلت عليها باستحقاق ؟
-- لم يتغير منهاجي أبدا بالرغم من مغادرة منزلي ومكتبتي وجامعتي وطلابي، تغير المكان يؤثر على إنتاج بعض المبدعين وأنا منهم، فقد عانيت من الانقطاع وأنا في عمان بالبداية حتى ألفت المكان وعاودت عملي ونشرت معظم كتبي ودواويني هناك، ما زال زمني رهين اشتغالاته مذ كنت في الدراسة الابتدائية حتى اليوم، التغير فقط بنوعية العمل وكميته أكثر الأحيان. عالمي الأليف هو القراءة والكتابة والتواصل مع طلبتي في معظم جامعات الوطن العربي ولاسيما جامعة الموصل والجامعات العراقية وأعمل الآن على التحضير لطبع ديوانين جديدين يحمل الأول عنوان ( بتول ) وهذا العنوان تمجيد لحضور شقيقتي الراحلة الدكتورة
( بتول )رحمها الله التي توفيت من جراء الاحداث المرعبة التي عاشتها في مدينة الموصل عام2014 ..وهناك ايضاً أكثر من مشروع نشر رواية وكتاب عن النسوية، كما أعمل على جمع حواراتي المنشورة بالمجلات الأدبية، وأقوم بتدقيق نصوصي في الهايكو ودراساتي لنشرها في كتاب.
-- دكتورة بشرى لنتحول الآن الى الشعر وكل ما يتعلق به وهو ديدن المثقفين والادباء عموماً.
ماذا يمثل لك الشعر، أهو تلك التجربة الراقية التي كانت تشغل مجتمعنا العراقي والعربي بشكل عام أم تغير به الحال...؟
-- بالرغم من الكلام الكثير الذي دار مؤخراً حول الشعر وموته وحلول الرواية محله لتكون هي البديل، إلا أن كل تلك الطروحات لم تدنُ من الموضوعية ولم تلتفت لأهمية الشعر في حياة الإنسان، ومهماته التي تختلف عن مهمات الرواية طبيعةً وتشكلاً ورؤىً، فضلاً عن اختلاف وظيفة اللغة وجمالياتها في كلا الفنين، فلغة الشعر ترتكز على اللحظة الكثيفة المعمقة المعبرة عن الكينونة وتتسم بالواحدية، بينما ترتكز لغة السرد على النمو والتطور فهي لغة الصيرورة.
التكوين الاول
{ متى أحسستِ بالشعر ومتى لامس قلبك؟
-- منذ الأزل صدقيني، لا أعرف كيف تكون الحياة دون شعر، أو لعله كان معي في التكوين الأول في رحم أمي، تقول أمي وأنت صغيرة، كنت تبكين حين تسمعين موسيقى حزينة أو أغنية مؤثرة، فنسارع لغلق المذياع، هكذا يكون الشعر قدراً، لكنه القدر الجميل في الأحوال كلها، لأنه يمنح الحياة معنى مضافاً، ويمنح الإنسان قدرة مرهفة على تلقي الجمال وتشكيله، كما يمنحه الطاقة على الفرح في زمن لا فرح فيه.
لقد كان الشعر ومازال عند من يدركون قيمة الفنون وأهميتها للإنسان تلك التجربة الراقية التي استحقت التقدير حينما عبرت عن جوهر المشاعر الإنسانية ورأت أنه اختيار وموقف ومصير. ونظرت للفن بوصفه وضع الحقيقة في العمل الفني حسب (هيدجر) لذلك فهو موجود زمني أستحق أن يهبه الشعراء حياتهم ويتحملوا من أجله ما احتملوا من ملاحقة الحكام والحساد والمشاغبين بكل الأزمان.
{ وماذا عن الكلام الكثير الذي يدور حول مهمة الشعر وضرورته في حياة الإنسان المعاصر؟؟
- بالرغم من الكلام الذي قيل عن موت الشعر وحلول الرواية محله فقد كان الصمود آخر الامر للمتمسكين بمواقفهم، والمتسائلين باستمرار عن معنى الحياة ودلالات أحداثها ومآلات مشاكل الإنسان الكبرى فيها، وفي مقدمة هذه المآلات معضلة الغياب والموت والاندثار، ساعين سعيا حثيثاً في دروب البحث عن المعنى دون الإمساك بواحد من خيوطه.
{ ما الذي فتحه الشعر من أبواب وعن ماذا ظل يبحث ؟؟
-- الشعر لا يفتح باباً أو يفك مجهولا إلا ليشكل مجهولاً أكثر تعقيدا وأعمق دلالة، مواصلاً مهمته في البحث عن ذلك المعنى الذي لا يرد في الشعر عبر لغة واضحة وبادية الشفافية لأن لغة الشعر تتسم بالعتمة والخفاء، فهي ضبابية لا تقول مرادها بأسلوب واضح ولا تعبر عن دلالتها بيسر كما تفعل اللغة المعيارية، إنها تدور حول المعنى ولا تقوله مباشرة مما يدفع القارئ الجاد إلى استدراجها ريثما يشكل الدلالة التي يجدها مناسبة لأفق تلقيه ولذلك كان الشعر منذ القدم وما زال بحاجة للفلسفة وليست لغة شعر شعرائنا القدامى ببعيدة عن مرمى الفكر الفلسفي بدءاً من (طرفة وزهير ولبيد وأبي تمام وأبي العلاء) وبعدهم تعمقت دروب الشعراء نحو الفلسفة ولغتها ومصطلحاتها ثم تطورت القضية في التصوف ولدى الفلاسفة الشعراء..
{ كيف تعيشين تجربتك الشعرية من البداية حتى اكتمال القصيدة وكيف تنظرين الى الشعرية؟؟
-- لستُ من الشاعرات والشعراء الذين يؤسطرون القضية، فالشعر تجربة إنسانية عاشها الإنسان قديما ويعيشها اليوم، وهي كأي قضية لها مساس بالنفس الإنسانية ومشاعرها وتجاربها وأفق تلقيها، لا بد أن يكتنفها الغموض والتوترات. معي يصحب ولادة القصيدة توتر وضيق وأرق، وقصائدي الوطنية التي أشعلتها الحروب كنت أكتبها بدموعي، فيها يمتزج الحبر بدمع الوجع، ولا يُذكر العراق والعراقيون والشهداء والصواريخ التي خربت وطني وهدمت ربوعه إلا بالدمع الذي يعبر مع القلم.
{ هل للكتابة طقوس خاصة عند بشرى البستاني ؟؟
-- للكتابة والشعر خاصة متطلبات ضرورية لا يمكن للتجربة استكمال ذاتها إلا بها، أولها الأمن النفسي، فقد تكونين في أتون حرب ضارية لكنك تواصلين كتابة القصيدة لأنك تجلسين في مكانٍ خاص بك ووسط أحبة يحرصون عليك وعلى منجزك. إذن المكان الخاص ضروري للمبدعة والمبدع وهذا ما اشترطته النسوية للمرأة المبدعة، وما أصرت عليه (فرجينيا وولف) الروائية البريطانية.
سؤال يُطرح بشكل دائم وهو عن قضايا المرأة ودورها ومعاناتها في المجتمع بماذا تلخص بشرى البستاني الجواب على هذا التساؤل؟؟
-- المرأة في العالم كله غرباً وشرقاً تحتاج لما يكفيها من المحبة والتشجيع والرعاية كي تبدع لأن ما عانت منه من اضطهاد عبر الزمن يكفي لحفر ذاتها وذاكرتها بالعذاب والمكابدة، فما أقرته النسويات جميعاً أن الحب والتمكين الممنوحين للمرأة لا يكفيان لرعاية مواهبها وتوظيف طاقاتها للإنتاج والشراكة في بناء الحياة العائلية والمجتمعية والوطنية. هذا أولاً، وثانيا وهو الأهم أن المرأة التي لا تمتلك إرادة التحرير فلن تحررها كل قوانين الدنيا؛ لأنها تعرف أن الحرية ليست أن يفعل الإنسان ما يشاء، بل هي المسؤولية التي تجعل من الإنسان قادرا على تحمل الأعباء الثقيلة في اتخاذ قرارات مهمة وصائبة في بيته وفي عمله وفي مجتمعه، قرارات يسهم فيها بخدمة أسرته ومجتمعه ومواطنيه، ويكون مسهما في بناء اقتصاد وطنه من خلال إسهام المرأة في العمل الذي يدعم الأسرة ويسهم في بناء اقتصاد وطنها، وما زيادة نسبة الجوع والجوعى في العالم إلا وأحد أسبابه المهمة إقصاء نصف المجتمع الإنساني عن ميادين العمل في العالم ولاسيما في شرقنا وفي وطننا العربي المستلب فكرياً.
{ هل تخيفك الورقة البيضاء، وهل تستطيعين أن تصفي ذلك التحقق من بداية المخاض حتى اكتمال النص ؟؟
لا تخيفني الورقة البيضاء كما تخيف بعض الشعراء، لأني على يقين من أن اللون الأسود سيطرزها....
قليلاً ما أُنجز القصيدة في جلسة واحدة إن كانت اعتيادية، أما الطويلة فتحتاج لأشهر أحياناً، وهذا النمط الطويل لا يكون إلا للموضوعات المصيرية كالحروب والاحتلالات والصراعات المصيرية الكبرى والأمور المعضلة كالموت والمرض، ولي من هذا النمط أكثر من ديوان: ((الحب 2003 / وكتاب العذاب)) وديوان ((بتول )) وكتاب الوجد وغيرها.
المهم هنا أن يتحول التوتر من الداخل إلى كتلة لغوية تستلقي على الورق، وما أن أجدها قد حملت في تشكيلتها الأولى معظم التوتر الذي كان يثقلني ويوتر أعصابي حتى أطمئن ويخفّ كثيراً ما أشعر به من عبء، وحينما أرضى عن النص الوليد أشعر بفرح ورضا وحينها أستطيع النوم.
{ هل تعيدين قراءة ما تكتبين من نصوص قبل أن تخرج بشكلها النهائي للقارئ؟؟
نعم أعود لقراءة النص في اليوم الثاني أو الثالث، أعود له مراتٍ عديدة، أحذف بعض المفردات والأسطر وأغير بعضها الآخر أكثر من مرة حتى أجد النص قد استوى، وأفضل القراءة الثانية من المختصين حولي من شقيقاتي واخوتي وزملائي الشعراء وطلبتي الموهوبين؛ لأن أربع عيون وفكرين مدركين خير من عينين وفكر واحد، وحينها يدور حوار حول ملاحظات مهمة أحيانا ووجهات نظر أخرى، لأن الحوار ضروري سواء أخذ به المؤلف أم حاوره حسب، بعدها أقوم بنشر النص دون تردد.
{ كيف ترين ثراء اللغة العربية وبماذا يتمثل؟؟
-- ثراء اللغة العربية واحد من إشكاليات الشاعر العارف بدقائق اللغة التي يكتب بها وفضاءاتها وأبعاد المعنى فيها وأثر السياق في تشكيل الدلالات وإيقاعاتها.
ثراء اللغة العربية يوقعني أحياناً بالحيرة، فهي أثرى لغات العالم قاطبة باعتراف علماء اللغة الأجانب، ففيها ما يقرب من ثلاثة عشر مليون مفردة. فأيَّ المفردة أختار، هذا ليس في كتابة الشعر حسب، بل وحتى في حفظه وفي المحاضرة. مرة وأنا أدرّس الإيقاعَ لطلبة الدكتوراه، اخترت قصيدةً رثاء مالك الكافية:
لقد لامني عند القبور على البكا ...صديقي لتذراف الدموع السوافك
وفيها قرأت البيت الثالث وأنا أكتبه على اللوح هكذا:
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
فتوقفت فوراً، قائلةً بصوت مسموع: لا لا، ليس هكذا. أغمضت لحظة وبرق الصوابُ في ذاكرتي:
فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبر مالك
وقلت للطلبة، تأملوا الفرق بين حرفي السين والشين، السين حرف مهموس صافٍ يعبر عن همس وصفاء بينما الشين حرف متوتر يعبر عن اشتباك العذاب بألوانه وتشويش الهواجس وارتباكها، فضلاً عن حضور حرف الفاء الذي يتسم برقةٍ وشفافية شديدة. ثم تأملوا كيف يتحول الفضاء الواسع من القبور والآلاف من الأموات إلى قبر واحد يلخصه الشاعر بقبر مالك المرثي ليكون الحزن الكبير العميق جديراً بمعزة الراحل ومكانته.
أحياناً أبقى أياماً أقلب المفردات في ذاكرتي وفي الدواوين دون استعانة بالقاموس، لأن القاموس يمنحني المفردة عارية ووحيدة ويتيمة، لكن السياق هو الذي يكسوها فيبين لي جمالها. ولذلك كان الشعر العربي والاشتقاقات التي يبتكرها الشاعر الذكي واحداً من مصادر ثراء اللغة العربية بعد القرآن الكريم والصحيح من كلام الرسول الأمين.
{ ماذا يعني الماضي والحاضر في حياة الدكتورة بشرى البستاني الشعرية والادبية؟؟
في تجاربي أحرصُ على العيش بالحاضر منطلقة نحو المستقبل، فالماضي منقضٍ لا عودة له، تلجأ إليه التجربة الشعرية حين تحتاج لثرائه ولخلاصة تجاربه الإيجابية والسلبية التي يلهمها الامتصاص من خبراته ، لكن لابد من الإشارة إلى أن محركات الشعر ووميض الشعرية أعمق سراً من كل تلك الخبرات المباشرة وأبعد أثرا وأشد خفاء بحيث يصعب الإمساك بها حتى من قبل الشاعر نفسه؛ لأن الشعر لا يفسر مؤثرات خارجية بل يكتب الأثرالنفسي المشتبك بهذه المؤثرات، أو مع تجارب سابقة عاشها الشاعرأو الشاعرة وقد لا يتذكرها بل ينهض أثرها في تلك اللحظة الشعرية الخالدة، ولذلك قيل جمال الشعر ومجمل الفنون يكمن في غموضها غير المبهم، غموضها الذي يستدعي أفق تلقي القارئ بكل محمولاته الدلالية، وما يكمن في اشتباك خبراته. ولذلك لابد من القول إن الشعر والأدب عموما لا يكتب الواقع ولا عن الواقع بل يكتب اشتغالات المخيلة التي تنتزع صوراً من الواقع وتجري عليها الحذف والتغيير والتركيب والإضافة لتكون لحظة الإبداع الأخيرة هي لحظة المراجعة والانتقاء. الواقع مادي ثقيل لكنه يخفُّ كثيرا إذ تحوله التجربة لتراكيب لغوية.
لغة فارسية
{ أين تكمن مصادر شعرك التي تتجلى لكثير من الباحثين الذين يقبلون على دراسته في كثير من الجامعات العربية والأجنبية؟؟
-- في الحقيقة لم أنتبه لهذه القضية إلا بعد استلامي رسالة من طالب دكتوراه عراقي يدرس في جامعة طهران يعلمني أن شعري يترجم الآن بدواوينه العشرة إلى اللغة الفارسية لإقبال طلبة الأكاديمية الإيرانية على دراسته وفق أكثر من منهج، كونه يمجد المقاومة ضد الغطرسة الأمريكية وضد ادعائها أن الحضارة الإنسانية المعاصرة كلها مدينة للغرب فيما وصلت إليه من تقدم هائل وخدمة للإنسانية ولذلك أطلقوا عليها المركزية الغربية وقد تناولتُ هذه القضية في أكثر من دراسة تفند هذا الادعاء لأن الحضارة المعاصرة هي جهد الإنسانية كلها عبر العصور ،وقد أكد الباحثون ذلك عبر تشخيصهم الحضارات السابقة التي كانت الجذر الحيوي لهذه الحضارة الغربية التي لم تنهض من عدم، وإنما كانت جذورها تمتص من حضارات الشرق الخالدة المصرية والعراقية والصينية والهندية والفارسية.
وأن اسطورة المركزية الغربية قد فندها دارسو الغرب والعرب معاً بالأدلة العلمية والأثرية مع أسماء العلماء العرب والمسلمين والمشارقة الذين أسهموا بتأسيس هذه الحضارة التي هي جهد الإنسانية جميعا عبر عصورها التاريخية، فالحضارات والفنون لا تتصارع ليفني بعضها بعضا كما تفعل أمريكا اليوم وروسيا وايران، بل تتحاور وتتثاقف من أجل حياة أفضل وأبهى للإنسانية جمعاء، ومن أجل تشكيل الجمال الذي يسعد حياة الإنسان الذي كرمه الله، لكنهم ينسون أن هذه الحضارة المدعية هي التي قتلت الشعوب وهدمت بيوتهم وشردتهم، وعملت عولمتها الاقتصادية على إفقارهم وتجويعهم، وبدل أن تنفق أموال الشعوب التي ابتزتها على الغذاء والدواء وإسعاد الإنسان أنفقتها على الحروب والصواريخ والأسلحة الكيمياوية التي قتلت الإنسان وانتزعت منه الأمن وأحاطته بالرعب والدم والظلم والظلام.
{ ماهي اهم المصادر في شعر بشرى البستاني ؟؟
-- مصادر شعري واضحة للقارئ المدقق، فهي في الكتب الثلاثة، القرآن الكريم والتوراة والانجيل وفي الحديث والسنة والشعر العربي القديم والحديث .
في التاريخ والفلسفة والتصوف وفي الشعر الأجنبي المترجم وفي المرويات العربية والروايات العالمية، وأحيانا أحتاج العلوم الصرفة الفيزياء والكيمياء والفلك ،وكنت قديما أشير في الإشارات نهاية النص إلى اسم المصدر فقط آملة برجوع القارئ للمصدر والبحث عن التناص أو الاقتباس ليفيد أكثر.
لكن اليوم تلاشت هذه الأمنية للأسف لعزوف معظم الشعب العربي ومنهم طلبتنا عن القراءة لأسباب ليس هنا موضعُ ذكرها مما يوجب الرجوع لتدوين الهامش وتوصيف المصدر والاقتباس كاملاً..
كذلك مصادر شعري من الفنون التشكيلية التي لها صلات عريقة بالشعر والرسم والنحت والعمارة والمونتاج والسينما. وقد أوضحت الدراسات الكثيرة التي كتبت عن دواويني عبر الأطاريح والرسائل ذلك مفصلاً ومنها أطروحة الدكتوراه الموسومة (تداخل الفنون في شعر بشرى البستاني) للدكتورة فاتن النعيمي التي طبعت كتابا صدر عن دار فضاءات في عمان.ومن مصادر شعري المهمة ايضاً الطبيعة، أرضاً وسماءً وأجراماً وبحاراً وفصولاً. ولكل مفردة دلالاتها الشعرية التي يحكمها السياق._لو طلب منك طلبتك من الشعراء الشباب وصايا تعينهم على تطوير تجاربهم الشعرية، فماذا ستقولين لهم وأي النصح ستقدمينه لهم؟
-- سأنصحهم ب-اقرأ، اقرأ، وكما قال جدنا الجاحظ اقرأ ألف ورقة لتكتب ورقة، اقرأ الشعر العربي القديم والإسلامي بأنواعه عذرياً ودينياً وحزبياً، أموياً وعباسياً وأندلسياً وصوفياً وحديثاً ومعاصراً.
وأقرأ الشعر المترجم عن كل الأمم لو توفر لك، ثم اقرأ نقداً وعلوم لغة وموسيقى وقصة قصيرة وومضاتٍ ورواية وتاريخا وفلسفة، ثم اقرأ عيون الشعر باستمرار.
_ما الذي يفعل الأسهاب المطول في الشعر؟؟؟
يقول الناقد الفرنسي جان بيير، الإسهاب في الشعر يقتل الدهشة أو يؤخرها. وهذه السمة مازالت مشكلة الكثيرين عندنا لأن اللغة العربية مغرية ومعطاءة وعلى الشاعر أن يختار ويكثف.
هل يشبه الشعر واقعنا التقليدي او يقترب منه كلياً؟؟
في الشعر والأدب عموماً لا يوجد واقعنا التقليدي، لأن الواقع عالم مادي ثقيل لا يشتغل إلا على الأرض وليس على الورق، بل يوجد في الأدب والفنون فضاء يتسم بالخفة يشكله الخيال وترسم تفاصيله وأحداثه الحروف.
بماذا تنصح الدكتورة بشرى البستاني المستعجل على طبع مؤلفاته لغرض كسب الشهرة السريعة وبدون تأنٍّ وتقييمٍ من طرف آخر يمتلك خبرة أكبر؟؟؟
-- أقول له لا تستعجل النشر ولا تعتمد على تقييم نفسك بخبراتك الغضة فقط في دفع المادة للطبع، بل عليك بقارئ آخر يتسم بالخبرة والثقة، فأربع عيون خير من اثنتين. وفكران خير من فكر واحد ورأيان يتيحان لك الاختيار بينما يفرض عليك الرأي الواحد قراره.واستشرْ ثم استشرْ وحاور، لكن عليك في النهاية أن تختار أنت الرأي الذي يمثلك وتراه ملائماً لسياق نصك وما يكون منسجماً مع رؤيته وفضائه.
وأدرس التراث بدقة قبل ان تنوي أنجاز كتاب ما خاص بك، تراث وطنك وتراث العالم، وطوّر البؤر المضيئة فيه وأهمل ما تجد فيه من الركام.
- هل الشعر نتيجة لتجربة حقيقة للشاعر؟؟؟
-- ليس الشعر مشاعرَ وأحاسيساً حسب، بل معظم الشعر الأصيل المتوهج هو نمذجة لغوية لتجارب حقيقية تضع الشاعر أمام وقائع الحياة وجها لوجه وترميه في مكابدتها ليتعلم كيفية الخروج من مآزقها. وفي أتون هذه التجارب تنهض المعاناة بإنضاج التجربة التي تعمل المخيلة على تحليلها وتركيبها بشكل جديد لتؤول لشعر في يوم ما.
|