الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العرب المحدثون ووعي الصراع القومي الحضاري


العرب المحدثون ووعي الصراع القومي الحضاري

نزار الربيعي

 

يُعَدّ الصراع القومي الحضاري من أكثر الإشكاليات الفكرية التي شغلت العقل العربي الحديث، إذ يشكّل هذا الصراع إطاراً لفهم علاقة العرب بذاتهم أولاً، وبالعالم ثانياً، في ظل تحوّلات كبرى شهدتها المنطقة منذ القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر. فظهور مشاريع التحديث، وتنامي النزعات القومية، واحتدام المواجهة الحضارية مع الغرب، كلها عوامل دفعت المفكرين العرب إلى إعادة التفكير في موقع الأمة داخل خريطة العالم وفي كيفية استعادة دورها الحضاري.

يبدأ الوعي العربي بالصراع القومي الحضاري مع إدراك حجم التراجع التاريخي الذي أصاب البنية السياسية والثقافية والاجتماعية للعالم العربي قبيل النهضة، حيث أدرك المثقفون العرب أنّ الفجوة بين الشرق والغرب لم تكن مجرد فجوة مادية أو تقنية فحسب، بل كانت فجوة حضارية أعمق ترتبط بالبنية الفكرية ومناهج المعرفة وأساليب الحكم. وقد شكّل الاحتكاك بالغرب عبر البعثات العلمية والبعثات التبشيرية والاحتلال العسكري أساساً لظهور خطابٍ جديد يعيد النظر في الهوية وفي عناصر القوة والضعف داخل الحضارة العربية الإسلامية.

لقد أدى هذا الوعي إلى بروز اتجاهات فكرية متعددة؛ فهناك اتجاه ركّز على ضرورة الاقتباس من النموذج الغربي بوصفه إطاراً للتقدّم، واتجاه آخر تمسّك بالأصالة وروح التراث، واتجاه ثالث حاول صياغة مشروع نهضوي وسطي يمزج بين الأصالة والمعاصرة. وتجلّى هذا التنوّع في كتابات أعلام الفكر العربي أمثال جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، طه حسين، وساطع الحصري الذين شدّدوا على أنّ القومية العربية ليست مجرّد رابطة لغوية أو عرقية، بل مشروع حضاري يتطلب الوعي بتاريخ الأمة وبدورها في صياغة مستقبلها.

ومع دخول القرن العشرين، تعمّق مفهوم الصراع القومي الحضاري نتيجة تعاظم التحديات السياسية والاقتصادية، خصوصاً مع سقوط الدولة العثمانية، ونشوء الدول العربية الحديثة، وصعود الحركات الوطنية والقومية. فقد بات العالم العربي ساحة تجاذب بين مشاريع كبرى: المشروع الغربي الاستعماري، والمشروع القومي العربي، والمشروع الإسلامي الإصلاحي. ونتيجة لهذا التشابك، أصبح الوعي بالصراع الحضاري أكثر وضوحاً، وبدأ المثقفون يطرحون سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن للعرب أن يصوغوا مشروعاً حضارياً معاصراً يحافظ على هويتهم وفي الوقت نفسه يضمن لهم موقعاً فاعلاً في النظام الدولي الجديد؟

إنّ التحديات الراهنة- مثل العولمة، الثورة الرقمية، التحوّلات الجيوسياسية، وصعود القوى الدولية الجديدة - أعادت فتح سؤال الصراع القومي الحضاري من جديد. فثمة إدراك متزايد بأنّ العالم اليوم لا يعترف إلا بالأمم القادرة على إنتاج المعرفة والتكنولوجيا وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية. لذا بات من الضروري إعادة قراءة التراث العربي برؤية نقدية، وتعزيز التعليم والبحث العلمي، وبناء مشروع تنموي يحقق الاستقلالية ويقلل من التبعية.

وعلى الرغم من التحديات، لا يزال الوعي العربي المعاصر يتمتع بمقومات تُمكّنه من استئناف دوره الحضاري، أهمها امتلاكه رصيداً تاريخياً غنياً، وهوية ثقافية متماسكة، وإمكانات بشرية واسعة. لكن تحويل هذه المقومات إلى قوة فاعلة يتطلب مشروعاً استراتيجياً يتجاوز الخطابات العاطفية إلى بناء مؤسسات قوية، وتعزيز قيم المواطنة، وإطلاق طاقات الإبداع. وهكذا يصبح الصراع القومي الحضاري ليس مجرد مواجهة مع الآخر فحسب، بل صراعاً من أجل تجاوز الذات والنهوض بها.

وفي الختام، يمكن القول إنّ العرب المحدثين يعيشون مرحلة وعي متجدد بأبعاد الصراع القومي الحضاري، مرحلة تتطلب فهماً عميقاً للتاريخ، وقدرة على قراءة الواقع، وإرادة حقيقية لصياغة مستقبل يضمن للأمة مكانتها وفاعليتها بين الأمم. فالحضارة لا تُمنح، بل تُبنى عبر تراكم الجهود الفكرية والعلمية والسياسية، وهو ما يجدر بالمجتمعات العربية السعي إليه في ظل التحوّلات الدولية المتسارعة.


مشاهدات 37
الكاتب نزار الربيعي
أضيف 2025/11/24 - 2:49 PM
آخر تحديث 2025/11/25 - 2:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 62 الشهر 18004 الكلي 12679507
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/11/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير