أين مشروع اليسار العربي؟
عبد الحسين شعبان
اللغة الخشبية
ظل اليسار حبيس لغته الخشبية القديمة، في حين كان الواقع يتغير سريعًا، واستغل الإسلاميون التديّن الشعبي ليحولوه إلى تديّن أيديولوجي، والتديّن الفردي إلى تديّن اجتماعي، مستفيدين من وسائل الاتصال الحديثة والأموال التي يمتلكونها والقنوات التي يستخدمونها بما فيها الجوامع والمساجد وأوقات الصلوات الخمسة ومجاملات الدولة لهم، وكذلك استغلوا الأعياد والمناسبات الدينية للترويج ضدّ الحكومات من جهة وضد اليسار العربي بمدرستيه المختلفتين من جهة أخرى، الماركسية والقومية، اللتان شهدتا صراعًا إقصائيًا لا حدود له.
كما بقيت لغة اليسار عالقة بالماضي وليس بالمستقبل، ولغة من هذا القبيل لا تستطيع استعادة الجمهور القديم، وليس بإمكانها كسب جمهور جديد، وهكذا تقلّص اليسار إلى حلقات حزبوية مغلقة تسمع صدى ما تقول وما تردّد وما تعتقد به، وتصدر بيانات باردة ليست فيها حرارة تلك الأيام الثورية الطافحة بالأمل، وإن حاول بعضها ابتداع لغة جديدة، لكنها بدت دخيلة وغريبة على تاريخ اليسار، تلك التي حاولت أن تقتفي أثر الليبرالية الجديدة المعولمة.
أسئلة ساخنة
هل انقضى زمن اليسار وتبدّد وعده وطارت أحلامه وأصبح مجرّد ذكريات يستمع إليها شابات وشبان اليوم عن عهود مضت، على الرغم من أن البعض لا يريد لها أن تمضي؟ ولعلّ هؤلاء يتساءلون اليوم، أين هو اليسار العربي الذي امتاز بالعمل الدائم والنشاط الحيوي والمبادرات المتجدّدة؟ والسؤال يبدأ من تونس ويَكبُر في مصر ويعلو الصوت في العراق ويتردّد الصدى في سوريا ولبنان والجزائر والمغرب واليمن والسودان وفلسطين والأردن وغيرها، والسؤال ينسحب على اليسار الكردي أيضًا في البلدان التي يتوّزع فيها، ويمتدّ بالطبع إلى اليسار الإقليمي لدول الجوار العربي.
وثمة سؤال آخر، هل هذا اليسار هو وريث لليسار القديم؟ ففي حين تنسحب المواجهات الاجتماعية الكبرى، يتم التحوّل إلى معارك صغرى، لأن الأولى أكثر تكلفةً، أما الثانية فهي أقرب إلى نشاط منظمات المجتمع المدني.
في تونس صعدت حركة النهضة «الإسلامية»، واحتلّت المواقع الأولى، ولم يكن زحزحتها ممكنًا لولا حماقاتها الكبرى، وفي مصر فازت حركة الإخوان المسلمين في الانتخابات، والذي قطع خط استيلائها على مقاليد الأمور كاملةً وأخونة الدولة، هو الجيش، وفي العراق كان الانقسام الطائفي الذي هيّأ له المحتل الأمريكي هو الواقع الجديد، ابتداءً من مجلس الحكم الانتقالي والدستور الملغوم والمعاهدة الأمريكية - العراقية غير المتكافئة، وهكذا استحكم حزب الدعوة والإسلاميون في مفاصل الدولة التي جرى تطييفها وأثننتها.
وما يزال العراق منقسمًا نصفه إلى إيران، التي تتغلغل بواسطة أذرعها المسلّحة وغير المسلّحة، ونصفه الآخر إلى الولايات المتحدة، التي لديها خمس قواعد عسكرية فيه، وما تموضعها الجديد في قواعد في كردستان سوى الاستعداد لمرحلة جديدة، يتداخل فيها الاحتلال العسكري بالاحتلال التعاقدي.
لم يستطع اليسار اللبناني التقليدي أن يكون جامعًا لانتفاضة العام 2019، وحتى اليسار الجديد لم يُنتج تجربة جديدة أفضل من تجارب اليسار التقليدي، والأمر ينسحب على السودان واليمن وسوريا والمغرب وفلسطين وغيرها.
الذات المشظّاة
وفي الغالب أصبح اليسار يسارًا فيسبوكيًا يحتفل بنفسه في ساحات مغلقة، يستعيد فيها بعض أمجاد الماضي ويُنزل معارضيه أو منافسيه إلى الحضيض تعويضًا عن الفعل الحقيقي، ناهيك عن الانقسامات التي يعاني منها. لقد فقد اليسار الرمزية السياسية والوسط الاجتماعي الذي كان يمكن أن يؤثّر فيه فكرًا وثقافةً وخطابًا وميدانًا.أصبح اليسار التقليدي اليوم يبحث عن هويّة لذات مشظّاة، لا تأثير لها في معادلة السلطة ومعادلة الناس، أما اليسار الجديد فهو يسار ثقافوي ينطق بالتغيير ويتحدث بلغة من يدعمه بما فيها بعض جهات التمويل الأجنبية لمنظمات المجتمع المدني، وبعضه يتوقف في اليوم الثاني عند وقف التمويل الأجنبي.
مُفترق طُرق
لعلّ عتق مفاتيح التحليل لفهم طبيعة الدولة والسلطة التي كانت سائدة لغاية الستينيات من القرن المنصرم، وكذلك انتهاء عهد السرديات القديمة، وضع اليسار أمام مُفترق طُرق، فلم يعد الصراع يُختزل بين برجوازية/ بروليتارية، يمين/ يسار، تقدّمية / رجعيّة، خصوصًا وقد تحوّلت الأنظمة الجديدة لتُصبح مزيجًا من الليبرالية والتديّن في اتحاد هجين، فهل يكتفي اليسار بتصدير خطاب تكتيكي ليكون محل الاستراتيجية، أو يُصدر بيانًا ليكون بديلًا عن الفعل الجماهيري، أو يوزّع منشورًا رقميًا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي ليعوّض عن فقر البنية التنظيمية؟
إنه مفترق طرق حقيقي، فاليسار لا يستطيع العودة إلى العزّ النضالي، وليس بإمكانه احتلال موقع جديد ومتقدّم اليوم وفي المستقبل دون توفّر مستلزمات أساسية ما تزال غائبة، لذلك ظلّ تائهًا ومتخبطًا في تحالفات لا تنتقص من هيبته فحسب، بل تثير علامات استفهام حول هويّته، خصوصًا بضعف تأثيره وتشبثّه بماضِ مجيد مضى لا يمكن استعادته، وحاضر بائس مهيمن، لاسيّما في ظلّ غياب هويّة موحّدة تُعبّر عن الواقع المعيش.تلك إشكالية تحتاج إلى مراجعة تجارب اليسار، وتقديم النقد الذاتي الذي هو نقطة الانطلاق لإعادة البناء في قراءة واقعية للواقع، وليس اسقاط الرغبات عليه، وهذه الأخيرة مهما علت نبرتها، فإنها لا تستطيع أن تتحوّل إلى رؤية إستراتيجية واضحة، بل تبقى ممارسة داخلية مغلقة. والمراجعة يجب أن تكون فعلًا عامًا يشارك فيه من تعنيه قضيّة اليسار، فالأزمة ليست بضعف التنظيم أو تراجع الفعالية، بل بغياب سردية جامعة تربط ما هو خاص بما هو عام، وما هو محلي بما هو كوني، وما هو نظري بما هو عملي، وما هو وطني بما هو اجتماعي، وأظنّ أن ذلك هو المأزق الكبير.
إشكاليات جديدة
وثمة إشكالية أكبر من جميع تلك الإشكاليات وهي:
كيف سيتم التعامل مع محاولات تفتيت الدول وتقسيم المجتمعات العربية في إطار خطط جديدة لا تستهدف اليسار حسب، وإنما تستهدف كيان الأمة العربية وأمم المشرق؟
والإجابة هنا لا بدّ أن تكون بعيدةً عن الانغلاق النخبوي والحتميات التاريخية، فمأزق اليسار في هذه الحالة لا ينفصل عن السياق الجيوسياسي المتصدّع الذي يطوقه، فالدولة، وليس اليسار لوحده، تواجه أزمات حادة وتحدّيات كبرى ونزاعات طائفية وانقسامات هويّاتية وتدخلات خارجية، بل هيمنة فعلية من جانب القوى المتسيّدة في العالم. كلّ ذلك يجعل من مشروع اليسار اليوم هو جزء من مشروع التحرّر الوطني الجديد بمواجهة صفقة العصر ومعاهدة سايكس- بيكو الثانية، فهل سيتمكن اليسار من مواجهة هذا الواقع الجديد بالتعاون مع القوى الوطنية الأخرى؟ إنها لحظة اختبار تاريخي بالتحوّل من شعبوية إلى مشروع جامع ليس لليسار وحسب، بل لجميع من تهمّه مصائر مجتمعه وأمّته، خصوصًا حين يستمع إلى نبض الناس العاديين وهمومهم ومعاناتهم، ويكفّ عن الزعم أنه يمثّلهم أو يتحدّث باسمهم.
□ مفكّر وأكاديمي عربي