الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
كوتا الهوية المفقودة وتمدّد الوهم القومي

بواسطة azzaman

كوتا الهوية المفقودة وتمدّد الوهم القومي

جليل إبراهيم المندلاوي

 

يبدو أن العراق «ولله الحمد» يسير بخطى ثابتة نحو «لعبة الديمقراطية»، حيث إن موسم الانتخابات فيه لا يكتمل إلا بخلطة سحرية من الدهشة والسخرية، وشيء من الفانتازيا السياسية، التي تجعل المواطن يشعر أنه يشاهد برنامج «رامز تحت الأرض» لا نشرة أخبار، وعادت معه عادة معروفة وهي، الطعن بهوية أي شخص يفوز ولا يعجبك فوزه، مثلما تطعن بفاتورة كهرباء، أو بغياب الموظف، أو بنزاهة مقدم برامج.

وآخر عجائب هذا الموسم جاءت من فوز مقعد الكوتا في الكوت عبر القناة الخاسرة «الأولى» التابعة لريان الكلداني، بعد فوز المرشح الذي صوّت له الرئيس مسعود بارزاني بمقعد الكوتا في الكوت، وهو فوز طبيعي جدا، لكن فجأة البعض شعر أن أحدا سرق «بطاقته التموينية»، لتتحول القناة فجأة إلى مخبر جنائي للهويات، ومختبر جينات ومنصة لاتهامات لا ترى في المواطن إلا بطاقة تعريف يجب أن تفحص تحت المجهر ويجرى للمرشح لك تحليل DNA سياسي، قبل أن تحتسب أصواته، حيث ظهر المحافظ السابق محمد جميل المياحي « جزاه الله خير الجزاء» ليخبرنا أن هناك طعونا وشكوك وتساؤلات، وقليلا من التشكيك، حول هوية الفائز.. هل هو فيلي؟ هل هو كردي؟ هل هو فيلي وكردي؟ هل هو فيلي بالأصالة أم مغشوش؟ كردي بالسكن؟ كردي فيلي بالنية؟.. لا ندري بعد، فاللجنة المختصة بالتصنيف لم تصدر قرارها، فلو كان هذا المرشح علبة جبن، لكان أسهل، عالأقل الجبن عليه شعار يدل على أصل المنشأ، وكأننا صرنا في برنامج «من سيربح الهوية»، وليس في انتخابات يفترض أنها دستورية ومبنية على إرادة الناخب.

السؤال البسيط الذي يطرح هنا هو، كيف يسمح مسؤول لنفسه ومقدمة برامج بالتشكيك في هوية مواطن؟ وكأن الجنسية والانتماء أصبحتا ملكا شخصيا لبعض الساسة والإعلاميين يعطونها لمن يشاؤون ويمنعونها عمّن يشاؤون.

ثم جاء المشهد الأكثر كوميدية عندما ناقش الضيف ومضيفته «بكل جدية مصطنعة» وجود أكثر من 16 ألف منتسب من البيشمركة في إقليم كردستان صوتوا لهذا المرشح، أي صدمة هذه، وكأن البيشمركة ليست قوة رسمية اعترف بها الدستور وقاتلت داعش عندما كان البعض يتفرّج من الشباك، ونسوا «أو تناسوا» أن صفوف البيشمركة تضم آلاف الكرد الفيليين إلى جانب المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان والكاكائيين وغيرهم.. طبعا هذا الجزء لم يعجب البعض، لأن قبول فكرة أن الكرد الفيليين في صفوف البيشمركة أيضا قد يفسد «حبكة» الحملة الإعلامية.

القفشة الاكبر

ثم تأتي القفشة الأكبر التي تستحق جائزة «أفضل لقطة تهكمية لعام 2025»، فبينما كان النقاش في البرنامج مستعرا عن هذا المرشح وكأنه كائن خرافي، فجّر الضيف قنبلة يحسبها من العيار الثقيل، حين تحدث أن الرئيس مسعود بارزاني صوّت للمرشح الكردي الفيلي، يا ساتر يا رب، رئيس يصوّت؟، ويصوّت حسب قناعته؟، ولمرشح يختاره هو؟

تخيّلوا رئيس يرى الجميع أخوة ومواطني بلد واحد، ويصوت كما يشاء ولمن يشاء.. واضح أن هذه جريمة كبرى في نظر البعض، وتجاوز خطير على المنهج الجديد لهم والمتمثل في «صوّت لمن نريد، لا لمن تريد.. فصوتك ملك للدولة، والدولة ملك جماعتنا»، لتأتي بطلة المشهد الإعلامية منى سامي لتلقي السؤال الذي سيبقى علامة فارقة في تاريخ التقديم التلفزيوني في العراق وهو، «كيف تسمحون للحزب الديمقراطي الكردستاني أن يتمدد داخل المحافظات الشيعية؟»، وكأن الحزب الديمقراطي الكردستاني مادة كيميائية قابلة للانفجار، أو فيروس يحتاج إلى حجر صحي، وليس حزبا سياسيا ينتمي إليه مكوّنات أصيلة موجودة تاريخيا في العراق، قبل أن تخلق معظم الفضائيات التي تنظّر اليوم، فالديمقراطي الكردستاني حزب سياسي يملك جمهوره ويمتلك بين صفوفه مواطنين من مختلف المكوّنات، وهنا يصبح «التمدد» مرعبا، ويصبح التعايش «غزوا»، ويصبح الوجود الكردي «وخاصة الفيلي» في الجنوب، أمرا غير طبيعي، فيا سيدة منى، التمدد الحقيقي الوحيد الذي عليك أن تتعلميه، هو تمدد الجهل السياسي وتمدد الطائفية الإعلامية، و تمدد الخطاب الذي يريد زرع الفتن.

والأطرف في اللقاء، أن المياحي نفسه اعترف بأن الكرد الفيليين يتواجدون في مناطق تمتد من ديالى حتى العمارة، لكن يبدو أن المشكلة ليست بالوجود بل بالانتماء السياسي، فالمطلوب من الكردي الفيلي أن يكون موجودا فقط إن كان صامتا، أما إن يختار جهة سياسية يرى أنها تمثله؟ فهذا «تمدد» خطير يجب إيقافه، لتبدأ صفارات الإنذار، وتفتح ملفات الهويات، ويعلن الاستنفار الإعلامي.

السؤال الأخطر الآن هو، أين هيئة الإعلام والاتصالات؟، أين الجهة التي تلاحق تغريدة عن الطقس، «محتوى» في مقطع تيك توك، لكنها لا ترى مشكلة في خطاب يمسّ الهوية ويهدد التعايش؟، أين الجهة التي يفترض أن تمنع التحريض وأن تحاسب من يعبث بالنسيج الاجتماعي وأن توقف من يتحدث بلغة طائفية مقيتة إلى «مسموح» و «غير مسموح»؟، فهل أن منى سامي وعرابيها «بحسب الواقع الإعلامي» خط أحمر لا يمسّ، حتى لو مسّ الوحدة الوطنية، أم أن الخط الأحمر هو قول الحقيقة فقط؟ وهل إن منى سامي مشمولة ضمن «برنامج الحماية من النقد»؟ أم تابعة لفئة «ممنوع الاقتراب والتصوير»؟

ليبقى السؤال الذي تغاضى عنه ضيف البرنامج ومضيفته عمدا وعن سبق إصرار، السؤال الذي يخشاه البعض وهو، هل يريد الخاسرون أن يفرضوا إرادتهم على الكرد الفيليين؟ وهل المطلوب من الكرد الفيليين أن يصوّتوا حسب «كتيّب تعليمات» يوزع قبل الانتخابات؟ أم أن المطلوب أن يبقوا خارج اللعبة السياسية، حتى يستمر البعض في التعامل معهم كمكوّن مهمش، لا كمواطنين شركاء في الوطن؟

قطع غيار

الكرد الفيليون الذين عانوا من التهجير والظلم، ليسوا قطع غيار سياسية تركّب عند الحاجة وترمى عند الانتخابات، وهم ليسوا تابعين لأحد، بل هم جزء من شعب كردستان وجزء من العراق، ولهم كامل الحق «مثل أي مواطن» أن ينتموا لأي جهة سياسية، ويصوّتوا لمرشح ويفوزوا بمقعد.. دون أن يطلبوا إذنا من منى سامي، ولا من ريان الكلداني، ولا من أي سياسي خسر مقعدا ويريد تعويضه بالضجيج، فكل هذه الجلبة وكل هذه الضوضاء وكل هذا التهويل.. بسبب مرشح كردي فيلي حصل على تأييد الرئيس بارزاني، ومع ذلك ارتفع الضغط وانخفض السكر، وانقلبت الطاولات، حيث أقلق ذلك محافظا سابقا، وأزعج قناة كاملة، وهزّ بعض أسياد «الطعن المجاني بالهوية».. فما بالك لو كان للكرد الفيليين أكثر من مقعد كوتا، ربما كانوا سيطالبون بإرسال فريق دولي للتحقيق، لنعيش في دوامة من الهراء والتناقض، حيث يصرخ من خسر انتخابات ليلغى فوز غيره، ويتحول الإعلام من أداة للتوعية، إلى منصة للتحريض، ويختزل الوطن إلى طوائف وعرقيات وكأننا لم نتعلم من جراح الماضي شيئا.

 


مشاهدات 52
الكاتب جليل إبراهيم المندلاوي
أضيف 2025/11/21 - 11:44 PM
آخر تحديث 2025/11/22 - 1:27 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 15494 الكلي 12676997
الوقت الآن
السبت 2025/11/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير