شارع الاميرات
وليد عبد الحسين
أحد أشهر شوارع منطقة المنصور في العاصمة بغداد، وهو عنوان فصول من السيرة الذاتية للكاتب والروائي والشاعر الفلسطيني المسيحي الذي استسلم عند زواجه من الأستاذة العراقية لميعة العسكري بنت أخ القائد العسكري الشهير بكر صدقي، إنه المفكر جبرا إبراهيم جبرا المولود في فلسطين/ بيت لحم عام 1919 والمتوفى بتاريخ 19/ 12/ 1994، وقبل وفاته بعشرة أشهر وبالتحديد في 27/ 2/ 1994 كما هو ثابت في نهاية سيرته "شارع الأميرات"، كتب لنا هذه المذكرات الجميلة التي يؤرخ فيها لسفره من بلده فلسطين ودراسته في بريطانيا/ جامعة كامبريدج، ومن ثم انتقاله إلى العراق/ بغداد عام 1948 حسبما ذكر في الصفحة (69) بالقول: "في أواخر أيلول من عام 1948، بعد تفاقم النكبة الأولى في فلسطين، انتدبت رسمياً للتدريس في المعاهد العليا (أي الكليات الجامعية في العراق) فغادرت أهلي في بيت لحم وجئت إلى بغداد، وفي حقائبي قليل من الثياب، وكثير من الكتب والأوراق، وعدد من اللوحات الزيتية التي جعلت أرسمها على قطع صغيرة نسبياً من الخشب المعاكس لسهولة نقلها من مكان إلى آخر" وذلك للعمل في الكلية التوجيهية التي تعتبر نواة جامعة بغداد، والتي اتخذ مقر لها آنذاك في مدينة الأعظمية قرب ساحة عنتر، وهناك تعرّف على حبيبته وزوجته فيما بعد لميعة العسكري، وتزوجها عام 1952 ومن ثم اصطحابها معه عند دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية/ جامعة هارفارد.
في كتابه الذي يقع في (271) صفحة من القطع الكبير والصادر عن دار الآداب في بيروت بطبعته الأولى عام 2007، قدّم لنا كاتبنا الراحل وقائع وأحداث سنتين فقط من حياته هما اللتان عاش بهما في بغداد/ شارع الأميرات، الذي سُمّي لأن "الأميرتين الهاشميتين اللتين كانتا من أوائل من بنى فيه داراً سكنية، هما الأميرة بديعة، ابنة الملك علي، وهي الأخت الصغرى للأمير عبد الإله، والذي كان وثيق الصلة في الأصل بتحويل البستان الكبير في منطقة الداودي إلى الحي الذي أطلق عليه اسم حي المنصور. وكانت الأميرة الأخرى هي الأميرة جليلة، ابنة الملك علي أيضاً، وزوجة الشريف حازم والداران كلتاهما ما زالتا قائمتين بلونهما المميز المائل إلى الصفرة، وقد اشترى أكبَرهما بعد ثورة 14 تموز (1958) تاجر أغنام مشهور حافظ على رونق المدخل والواجهة. أما الدار الأصغر، المجاورة لها مباشرة، فقد تقلبت عليها الأيدي إلى أن غدت اليوم محل مزاد علني معروف" هذا ما يذكره جبرا في سيرته طبعاً.
وهكذا يتنقل بنا الكاتب في مناطق بغداد ونواديها لا سيما نادي العلوية وذكرياته مع شخصياتها وأدبائها آنذاك بل وحتى الشخصيات العالمية البارزة التي تواجدت آنذاك في بغداد مثل المسز مالوان والروائية أجاثا كريستي وعالم الاجتماع علي الوردي، مشيراً إلى اهتمامه بالكتب والقراءة وكتابة الروايات، سارداً لنا مغامراته مع النساء حتى استقراره في قصة حبه مع زوجته، التي قال عنها في صفحة (124): "وكانت لميعة أيضاً ابنة أخ الفريق بكر صدقي العسكري، أول من قام بانقلاب عسكري في بلد عربي في التاريخ الحديث، وذلك في عام 1936، من أجل الرجل الذي كان يحبه ويجله، الملك غازي بن فيصل الأول، وقدم حياته ثمناً لذلك، حين اغتالته الفئات المعارضة قبل أن تمضي سنة واحدة على الانقلاب. وقد أبقى ذلك كله هالة ما حول لميعة توحي بتنائيها عن معظم الناس، وربما باستعلائها عليهم منذ أن كانت طالبة في دار المعلمين العالية تلفت الأنظار أينما تحركت - ولن أنسى يوم اندهش أحد زملائي في الكلية، وهو خريج جامعة أكسفورد، حين علم بأن ثمة علاقة صداقة بيننا، أنا الغريب القادم من فلسطين، وهي المشهورة بجمالها وكبريائها وخلفيتها الاجتماعية، فقال: لميعة برقي العسكري ما الذي أوصلك إليها؟ كنا أيام التلمذة في العالية لا نحلم بأننا سنستطيع يوماً أن نقول لها، ولو من بعيد: صباح الخير".
سيرة رغم تغطيتها لأحداث سنتين فقط، غير أنها غنية بالوقائع والتجارب والآراء، وكم أعجبني قوله في الصفحة (172) حينما قال: "من يسير بين الناس بلا قناع عليه أن يدفع الثمن غالياً".
ورأيه في المرأة الذي أورده في الصفحة (181) بمناسبة ذكره لمحاضرته التي ألقاها في الاتحاد النسائي في بيت لحم مستشهداً بمقولة نابليون حينما قال: "دوخت العالم كله وقهرته، ودوختني وقهرتني جوزفين" يعني نابليون بذلك زوجته التي أحبها كثيراً، ولطالما اعتُبرت علاقتهما قصة حب خالدة، إلا أنها لم تكن صورة مثالية للإخلاص والتضحية، إذ شاب علاقتهما خيانة متكررة، وانتهى زواجهما بالطلاق كما هو منشور في ويكيبيديا عبر موقع غوغل.
"شارع الأميرات" من أمتع السير والمذكرات التي اقتنيتها قبل أكثر من سنة وتفرغت من مطالعتها هذه الأيام، ولفرط جمالها وتأثيرها عاشت فيّ عدة أيام، فقلت لأكتب عنها عسى أن أتحرر من سيطرتها للوثوب إلى كتب ومذكرات وروايات أخرى.