حين يصمت العالم تتكلم الروح
نوري جاسم
في زمنٍ تضجّ فيه الأصوات، وتتراكم الصور وتتسابق الكلمات، يصبح الصمت نوعًا من الرفاهية الروحية. لا لأن العالم قد أفرط في الحديث، بل لأننا فقدنا القدرة على الإصغاء إلى ما وراء الكلام. إنّ الإنسان الحديث يعيش في ضوضاء مزدوجة؛ ضوضاء الخارج، وضوضاء الداخل، وبينهما تضيع إشارات الروح وهي تحاول أن تهمس بما تبقّى من معناها. تلك الروح التي كانت، يومًا، مرآةً صافية لما فينا من صفاء، صارت اليوم مرهقة من الانعكاسات المشوّهة، تئنّ تحت ثقل القلق وتسرّب الوقت. ومع ذلك، ما زالت هناك لحظات نادرة، تشبه وميض البرق في ليلٍ كثيف، توقظ فينا شيئًا قديمًا، كأنّنا نتذكّر فجأة أن لنا جذورًا في النور، وأنّ الحياة ليست مجرّد سباق نحو المجهول. وحين نصغي إلى قصيدةٍ صادقة، أو نلمس لوحة رسمها قلبٌ لا يدّعي، أو نقرأ نصًا يجعلنا نبتسم بلا سبب، فإنّنا نعيد شيئًا من التوازن الغائب. فالثقافة، في جوهرها، ليست ترفًا معرفيًا، بل هي شكلٌ من أشكال العلاج الجمعي، تمنح المجتمع القدرة على الشفاء من صخبه. ربما لهذا السبب يهرب الشعراء إلى الكتابة، والفنانون إلى عوالمهم، والعارفون إلى تأملهم، لأنهم جميعًا يحاولون إنقاذ ما تبقّى من الإنسان فينا. وفي كل محاولة صدق، ثمة بذرة ضوء تُزرع في تربة هذا العالم، تنتظر فقط قلبًا يؤمن بها. إننا لا نحتاج إلى مزيدٍ من الضجيج، بل إلى مزيدٍ من الصمت العميق، الصمت الذي يعيد ترتيب أرواحنا كما يُعيد النهر صفاءه بعد العاصفة. فحين يصمت العالم... تتكلم الروح ..