كامل الدليمي.. رجلٌ عبرَ الحياة بين القصيدة والقلق
محمد علي محيي الدين
في قرية الصياحية من قضاء المحاويل، وتحديدًا في الأول من تموز عام 1963، وُلد كامل حسن عليوي الدليمي، ولم يكن مجرّد ابن أرض خصبة بالحنطة والنخيل، بل كان بذرة في تربة الأدب العراقي ستورق لاحقًا على هيئة شاعر، وباحث، وناقد، لا يني يغرف من ينابيع الفكر والعاطفة والقلق الإنساني.
عاش حياته كمن يقطعُ الطريق وفي يده مشعلٌ لا يخبو، فتقلّب بين ثنايا التجربة الإنسانية، ومضى في دروب متعددة لا يجرؤ السير فيها إلا أولئك الذين جبلوا من نار الفكر وماء الشعر. بدأ حياته العسكرية حين انتسب إلى الكلية العسكرية وتخرج برتبة ملازم، لكنه ما لبث أن لبّى نداء المعرفة، فانتزع نفسه من الميدان الصلد إلى مدارات الفكر والنقد والتأمل، متسلّحًا بعدة شهادات جامعية: في الإدارة والاقتصاد، وفي العلوم التربوية، وفي القرآن الكريم، وفي اللغة العربية، وكأنّه كان يستعدّ لرحلة عمرها أطول من عمره.
شاعر لا يقيم في القصيدة وحدها
لم يكن كامل الدليمي شاعرًا تقليديًا، بل كان شاعرًا يتنفس النقد، ويفكك المفاهيم، ويعيد ترتيب الفوضى بما يشبه الموسيقى. ففي مجموعاته الشعرية «قيد وطن»، و»عَثرة سنونو»، و»لك وحدك اخلعني»، و»اشرب وقتك حتى تثمل»، و»خلخال الوقت»، و «ولأنك... سأغني»، كان النص الشعري لديه مسرحًا للوجود، ورصيفًا للغياب، ونافذة لرؤية العالم من زوايا لم يُلتفت إليها كثيرًا.
كتب الحزن العراقي لا كحالة عابرة، بل كجغرافيا متأصلة في الشخصية، فكانت مجموعته «لماذا الحزن عراقي؟» بمثابة مرآة حارقة للذاكرة الجمعية، حيث تتداخل السياسة بالتاريخ، والأسطورة بالواقع، واللغة بالخراب. لم يتغنَّ بالوطن، بل كان يفتش عن أوجاعه، يطارد خرائطه القديمة، ويعيد رسمها في قصيدة تحاول أن تقول ما لم يقال.
ناقدٌ بأسئلة لا تخشى الصدمة
في النقد، كان كامل الدليمي أكثر جرأة، بل وأكثر استفزازًا للعقل الكسول. لم يكتب من أجل الاستعراض الأكاديمي، بل من أجل إحداث زلزال في الذهنية النقدية العربية. من يقرأ كتبه «تهافت الأدب»، أو «الذرائعية... آليات مرتبكة»، أو «محاكم الحروف»، أو «صحائف السؤال»، أو «تأملات في ومضات على الطريق»، يدرك أنه ناقد مشغول بحفر المعنى، لا بتزيين النصوص. لم يكن يعيد إنتاج مقولات الآخرين، بل كان يعيد تفكيكها ومساءلتها وإعادة صياغتها.
وفي مؤلفه اللافت «مملكة العقارب»، والذي تناول فيه الفكر الديني المتشدد، قدم قراءة جريئة وصادمة للمخيال الديني الذي تحول – كما يرى – من بوابة نور إلى أداة قمع. أما في كتابه «الجندر من العقلية إلى الجسدية»، فقد اقتحم منطقة ملتهبة، مقدّمًا مقاربة أنثروبولوجية عميقة لمفهوم الجندر في الوعي العربي، بعيدًا عن الشعاراتية أو الانحياز الأيديولوجي.
متأمل على هيئة شاعر، وشاعر يتأمل العالم
يرى النقاد في كامل الدليمي حالة ثقافية فريدة، تجمّعت فيها مواهب متعددة دون أن تتنافر، فقد كان شاعرًا ناقدًا، ومفكرًا عابرًا للجغرافيات الفكرية. تنقّل بين الشعر والفلسفة والدين والأنساب والأنثروبولوجيا، دون أن يفقد صوته أو ينقسم على ذاته. لقد مزج في كتاباته بين حرارة الشعور وبرودة التحليل، فصارت كتبه مصفوفة من الأسئلة المفتوحة، لا تمنح اليقين بل تستفز القارئ لتفكيك يقينه.
وما يُحسب له – كما أشار كثير من النقاد – أنه لم يسعَ إلى إرضاء السلطة الثقافية، ولا تصالح مع النماذج السائدة، بل كان مشاكسًا بنبل، وصادمًا بذكاء، وقلقًا بوعي. كتب عن المرأة العربية في كتابه «بين التحرر والتحلل» بأسلوب لا يغازل القارئ بل يوقظه. وكتب عن الدين لا ليؤمن أو يكفر، بل ليفهم ويكشف. وكتب في علم الأنساب كتابه «عشيرتنا العراق» كأنه يربط الشجرة بالأرض، والهوية بالزمن.
حضور ثقافي عربي وتأثير يتجاوز الحدود
شارك الدليمي في مهرجانات مرموقة كمهرجان الإسكندرية الدولي، ودار الأوبرا المصرية، ومهرجان الجواهري، والمهرجان العربي للكتاب والإعلاميين، وكان حضوره متميزًا ليس فقط كنصّ، بل كصوت وموقف. وقد نال جوائز عديدة منها الميدالية الذهبية للكتاب والإعلاميين، ودرع التميز من مهرجان الإسكندرية، وشهادات تقدير من مؤسسات ثقافية في بيروت والقاهرة.
في القاهرة، حيث رحل فجأة في التاسع من أيار 2024، أثناء رحلة سياحية، أسلم قلبه المتعب للكلمات الأخيرة، ورحل كما يليق بالشعراء: بلا وداعٍ، وبكثيرٍ من الصمت العميق. لم يكن موته نهاية، بل انتقالًا إلى ذاكرة الثقافة العراقية والعربية، حيث لا تموت الأرواح التي كتبت بصدق.
صوتٌ خافت... لكنه لا يُنسى
كامل الدليمي لم يكن رجلًا عاديًا، بل كان مكتبة تسير على قدمين، وسؤالًا طويلًا في زمن الأجوبة السريعة. رجلٌ لم تعجبه القوالب الجاهزة، فهشّمها، ولم يطمئن إلى السائد، فحاكمه، ولم يتنكر لوجعه، بل حمله معه في الشعر والنقد والفكر، كأنّ الحزن هوية، والكتابة خلاص.
هو شاعر، وناقد، وباحث، ومفكر، لكنه قبل ذلك وبعده: إنسانٌ ظل يبحث عن الحقيقة في مرايا الكلمات. رحل جسدًا، وبقي أثره كنبضٍ يتكرر في صدر الثقافة العراقية، كلما همس الزمن بإسم كامل الدليمي.