الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه

بواسطة azzaman

الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه

حامد الضبياني

 

في دكانٍ صغيرٍ تتناثر فيه رائحةُ الخشب والحديد والزجاج، أعيشُ كلَّ يومٍ مسرحًا من رمادِ وطنٍ مكسور، أُرمِّمُ الطاولاتِ التي انكسرت أرجلُها كما انكسرت أرجلُ المقاتلين على أسوار الخيانة، أُصلحُ المرايا التي فقدت وجهَها كما فقد العراقيون وجوههم حين نظروا في مرايا الساسة والعمائم والتجار، أُعيدُ الحياةَ إلى مقعدٍ أكلَتْه النيرانُ كما أحاول عبثًا أن أُعيدَ الحياة إلى وطنٍ صار رمادًا في كفِّ الريح. أقفُ أمام قطعة زجاجٍ مشعوبةٍ لا تُريد أن تلتئم، أنفخ فيها من وجعي وأقول لها: "عودي إلى نفسكِ يا جميلة، فالعراقُ أكبر من شُعوبِ الكسر." فتبتسمُ من خلفِ صمتها وتقول: "بل أنتم من كُسرتم يا بنيّ، أنتم من صدّق أنَّ المذهبَ وطنٌ، وأنَّ العمامةَ عقل، وأنَّ الرصاصةَ إيمان، وأنَّ من خانكم يُمكن أن يُعيد بناءكم."أُحادثُ الزجاجَ كلَّ صباحٍ كما يُحادث المتصوفُ مرآته في آخر الليل، أسأله عن معنى الصبر، فيقول لي: "الصبرُ أن تبقى واقفًا حتى حين تنهارُ الجدران، أن تصحو بعد كل انكسارٍ لتقول: لا زلتُ حيًّا رغم الخراب." أراهُ شفافًا كالحق، هشًّا كالأمل، صادقًا كالموت، وفي انكسارهِ مرآةُ العراقِ نفسه، وطنٌ عظيمٌ يرمّمه أبناؤه كلَّ يومٍ، بينما يعيد العملاءُ خَرقَه بأيديهم.حين يمرُّ الزبائنُ إلى محلي، أرى وجوهًا تروي لي قصصها دون أن تتكلم: وجهُ عاملٍ فقد حلمه فصار يشتري كرسيًّا مكسورًا ليُقنع نفسَه أن في الترميم خلاصًا، وجهُ امرأةٍ انهكها الفقرُ فصارت تبيع خاتمَ زواجها لتطعمَ أطفالها، ووجوهُ الذين مرّوا إلى الثراء من دهاليز الفساد، يبتسمون لي ابتسامةً مُطلية بالعار، أرى في عيونهم خيانةَ النفط والماء والتراب، أرى كيف غسلت المصارفُ الأجنبيةُ أموالهم كما يُغسلُ الجسدُ من الدمِ بعد الجريمة، كيف صاروا وكلاءَ للسارقين وبروكراتٍ يُعيدون تدويرَ الخراب تحت لافتة الإعمار.حين أُصلحُ الزجاجَ المكسورَ، أرى في انعكاسهِ بنادقَ الذيول الذين مزّقوا الأرض باسم الطاعة، وفتاوى ملعونةٍ شرّعت الدم، وقلوبًا خربةٍ تصرخُ من منابرِ النفاق: "الله أكبر"، بينما تُخفي خلف التكبير صفقةً جديدةً، ورقبةً تُذبحُ باسم العقيدة. أرى في الزجاجِ قببَ سامراء وهي تُهدم، والبيوتَ وهي تئنّ تحت أنقاض المذهبية، أرى كيف سُرِقت الروحُ من هذا الوطن تحت مسمّياتٍ تلمعُ كما تلمعُ السكاكينُ قبل الطعن، وكيف صار الموتُ وجهًا مألوفًا في المدن، وأسماء الشهداء تملأ الجدران دون أن يُسأل القاتلُ عن معنى الوطن.أقول للزجاج: "هل نحنُ جبناء؟"، فيردُّ عليّ كمن يقرأ التاريخ من لسان الحِكمة: "العراقي لا يُولدُ جبانًا، إنه ابنُ أولِ من خطَّ الحرفَ، وأولِ من علّمَ العالمَ معنى الطبِّ والزراعة والفلك، ابنُ حضارةٍ رأت النورَ قبل أن تعرف الأرضُ معنى الغروب، لكنهُ ابتُليَ بدخلاءٍ سكنوا بين ضلوعه، عُملاءَ باعوا شرفهم للأجنبي بثمنِ النكاح السياسيّ، وانحنوا تحت لافتة الدينِ المزيف ليغطّوا عوراتهم بالفتاوى."

تأملتُ الزجاجَ طويلاً، فرأيتُ فيه صورةَ العراق كما هي: نصفُها مكسورٌ، ونصفُها يقاتلُ كي لا ينكسر، رأيتُ فيه تاريخَ من عاشوا على وجعٍ واحدٍ منذ الأكديين حتى البصرة الحديثة، منذ سُفُرِ التكوين إلى آخر نشرة أخبارٍ في المساء، رأيتُ كيف يُعاد تدويرُ الخيانة في كلِّ عهد، وكيف يلبسُ الخائنُ ثوبَ المخلّص، وكيف يصفقُ له الجائعُ لأنه لم يعد يفرّق بين الخبز والكرامة.يا وطني، يا زجاجي الكبير، كم مرةً رمّمتُكَ ولم تلتئم، وكم مرةً صدّقتُ أنَّ الحُبَّ وحدهُ كفيلٌ بإحياءِ المدن، لكنّهم قتلوا الحُبَّ في صدورنا كما قتلوا المعنى في كلماتنا، صار الشاعرُ متَّهَمًا، والمثقفُ مُلاحقًا، والعاقلُ يُعدُّ خائنًا لأنّه رفضَ التصفيقَ للخراب. وحين سألتُ الزجاج: "هل نُفيقُ يومًا؟"، أجابني: "نعم، حين يعرفُ العراقي أنَّ الوطنَ لا يُشترى بالهويّة، وأنَّ الدينَ لا يُختصرُ في لحيةٍ أو شعار، وأنَّ الكرامةَ لا تكونُ بندقيةً بل ضميرًا لا ينام."

سيأتي يومٌ – وأنا أؤمن به كما يؤمن الزجاجُ بنورِ الشمس – يومٌ يعود فيه العراقي إلى جذره الأول، إلى لحظةِ النور التي خرج منها الخطُّ المسماريُّ من تحت أصابعه، يومٌ تُغسل فيه الأرضُ من شوائب الخونة كما يُغسل الجرحُ بماءٍ مُرٍّ لكنه يُطهّر، يومٌ تُعادُ كتابةُ الدفاتر لا بحبرِ النفط بل بدموعِ الذين أحبّوا هذا البلد ولم يساوموا عليه.سوف يُبعث العراقُ من تحت الركام، كما يُبعث الزجاجُ من شظاياه، سيلتئم حين نكفّ عن انتظار الخلاص من الغرباء، وحين نكفّ عن بيعِ الذلِّ على أنهُ حكمة، وعن تجميلِ العبوديةِ باسم الواقعية، سيلتئم حين نرى في كلِّ جرحٍ طريقًا إلى النور، وفي كلِّ صمتٍ بذرةَ نهوضٍ جديدة.

أما أنا، العاملُ في محلٍّ صغيرٍ للأثاث والسكراب، فسأبقى أصلحُ ما يمكن إصلاحه، لا لأنَّ الزجاجَ سيعود كما كان، بل لأنَّ كلَّ ترميمٍ لقطعةٍ مكسورةٍ هو فعلُ مقاومةٍ ضدَّ عالمٍ يريدنا أن ننكسر. سأبقى أُحادثُ الزجاجَ حتى يفهمَ الناس أنَّ في الصنعةِ فلسفةً، وفي الترميمِ كرامةً، وفي الشظايا وطنًا ينتظرُ من يُعيد إليه صورته القديمة.وهكذا يظلُّ الزجاجُ مرآةَ الوعي، والوطنُ مرآةَ اللهب، والإنسانُ الذي لا يتعلّمُ من الكسر، سيبقى يدورُ حول نفسهِ كما يدورُ البرغي الصدئ في لوحٍ منسيٍّ في زاوية التاريخ.


مشاهدات 74
الكاتب حامد الضبياني
أضيف 2025/10/28 - 3:10 PM
آخر تحديث 2025/10/29 - 4:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 149 الشهر 19618 الكلي 12159473
الوقت الآن
الأربعاء 2025/10/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير