بين التنوع الخلّاق والانقسام الممزق
محمد علي الحيدري
في المجتمعات التي تكثر فيها التباينات الفكرية والسياسية، يُفترض أن يكون الاختلاف علامة صحة ودليل حيوية. فالتعدد في الرأي، إذا أُدير بوعي ومسؤولية، هو المحرك الطبيعي للتطور، ومصدر الإثراء في التجربة الجماعية. غير أن التاريخ الحديث، في منطقتنا خصوصًا، يكشف أن إدارة الخلاف باتت واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا وعمقًا في بنيتنا الثقافية والسياسية على السواء.
لقد تحول الخلاف، في كثير من الحالات، من وسيلة لتوسيع الرؤية إلى أداةٍ للتناحر وتفتيت الصفوف. لم نعد نختلف من أجل الحقيقة، بل من أجل الغلبة. ولم يعد الهدف الوصول إلى موقفٍ راجحٍ بالحجة، بل إسقاط الخصم وكسر رمزيته. وهنا بالضبط تنقلب المعادلة من “رحمة في الاختلاف” إلى “لعنة في التنازع”.
إنَّ إدارة التنوع تحتاج إلى وعي جمعي يرى في الاختلاف طاقةً لا تهديدًا، وإلى مؤسسات قادرة على تحويل الجدل إلى حوار منظم، لا إلى ميدان لتصفية الحسابات. حين يغيب هذا الوعي، يصبح كل خلاف مشروعًا شخصيًا، وكل موقفٍ رأيًا منزَّهًا، وتتحول السياسة إلى ميدان غرائز لا فضاء أفكار.
لا تكمن المشكلة في وجود التعدد، بل في ضعف الثقافة التي تنظّم هذا التعدد. فحين تضعف القواعد المشتركة، وتغيب القيم الناظمة ، كالاحترام، والمصداقية، والقدرة على التنازل لصالح المبدأ ، يصبح كل اختلافٍ تهديدًا للهوية، وكل رأي مخالفٍ خيانةً، وكل حوارٍ مع الآخر ضربًا من الارتداد.
لقد أثبتت تجارب كثيرة أن المجتمعات لا تنهار بفعل تنوع مكوناتها، بل بفعل سوء إدارتها للتنوع. ذلك أن القوة لا تنشأ من وحدة الرأي، بل من وحدة الهدف ضمن تعدد الرؤى. أما حين يغيب هذا الوعي، فإن “الاختلاف” يتحول إلى سلاح يجرّح الجسد الواحد باسم الحرية، ويفتت الثقة العامة باسم الاجتهاد.
إن الحاجة اليوم ليست إلى مزيد من الدعوات للتسامح اللفظي أو الشعارات التصالحية، بل إلى إعادة بناء ثقافة الخلاف على أسس أخلاقية ومؤسساتية واضحة. فالأمم التي تنضج في وعيها الجمعي هي التي تعلّمت أن تُحاور ذاتها قبل أن تحاكمها، وأن تتجاوز الأشخاص إلى الأفكار، والمكاسب إلى المبادئ.
لذلك، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس: لماذا نختلف؟ بل: كيف نختلف دون أن ننكسر؟
الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ بالاعتراف بأننا ما زلنا، حتى اليوم، نمارس الخلاف كما لو أنه معركة هوية، لا عملية نضج اجتماعي وسياسي.
وحين نُدرك أن إدارة التباين فضيلة، وأن ضبط الانفعال قوة، سنكتشف أن التنوع ليس خطرًا، بل فرصة لإعادة تعريف ذواتنا بوعيٍ جديد وعقلٍ متصالح مع نفسه.