التجوال فوق الضباب ...
تجسيد كاسبار ديفيد فريدريش لروح الرومانسية الألمانية في لوحاته
ليزلي تشامبيرلين
ترجمة: د. رمضان مهلهل / البصرة
كان كاسبار ديفيد فريدريش، المولود في العام 1774، رساماً للسحب والسماء. إذ استخدم ألواناً داكنة دقيقة للغاية، لدرجة أنه كان قادراً على التمييز بين الهواء المجرد والهواء المرئي من خلال الزجاج. وقد ألهمه مسقط رأسه، غرايفسفالد، القريب من بحر البلطيق، شغفاً بشواطئ البحار والسفن الشراعية ثلاثية الصواري، ودفعته للحديث عن "أجمل ما أنتجه الإبداع البشري على الإطلاق: السفن ذات الأشرعة المنتفخة". كما فتنته الصخور، متمثلة في المنحدرات البيضاء في جزيرة روغن. كذلك جعلته صلابة الحجارة يتفوق في رسم الآثار، وفي رسم الجليد، حيث يتحول الماء إلى صخر صلب.
كنا سنعرفه رساماً للعناصر لو لم يكن قد أضاف، في مراحل لاحقة من مسيرته، شخصياتٍ منفردة، أو شخصيات ثنائية، أو أحياناً مجموعة مؤلفة من ثلاث شخصيات، تُرى من الخلف كما هو مُعتاد. وبينما نتشارك نظرتهم الخارجية المُذهلة تجاه منظر جبلي أو عبر البحر، يبدو فريدريش أعظم فناني السمو الرومانسي الذي عرفناه على الإطلاق، وسابقاً لتيرنر. لكن بعض مشاعره التقية كانت أيضاً تحمل مسحة من الأسى، وهو ما وجده الجمهور المعاصر كئيباً. غوته، الشخصية الثقافية العظيمة في حياة فريدريش، وراعيه أحياناً – رغم أن الرسام كان يود دعماً أكبر – حسم رأيه أخيراً، وهو يصارع شياطينه، بأن فن فريدريش قد "ضلّ الطريق". لكن النساء أحببن أعماله، ربما لأنها، كما قال صموئيل بيكيت، كانت "شفيفة".
في هذه القصة، اشترى العديد من الأزواج الأثرياء ذوي النفوذ لزوجاتهم لوحة من لوحات فريدريش. كان أحدهم هو نيكولاي الأول، امبراطور روسيا المستقبلي. يُعدّ الاهتمام الروسي الكبير بأعماله، إلى جانب مكانته الفنية غير المستقرة في حياته، وستين عاماً من الإهمال بعد وفاته عام 1840، من بين أسباب تشتت أعمال فريدريش الفنية، على الرغم من وجود الكثير منها اليوم في ألمانيا. إذ احترقت العديد من لوحاته أو فُقدت عن طريق الخطأ، وارتفع هذا العدد بعد دخول الجيش الأحمر إلى برلين عام 1945. ولا يزال مصير لوحة أو اثنتين غير مؤكد، ورغم أن أعماله أبهرت الجمهور في معرض "الحركة الرومانسية" في لندن عام 1959، إلا أن بريطانيا تمتلك عدداً قليلاً منها.
كانت غرايفسفالد تحت الحكم السويدي في أواخر القرن الثامن عشر، وكان الفتى المنحدر من عائلة بائعي شموع، غير ماهر بما يكفي للنجاح في تجارة العائلة، فدرسَ الرسم في الأكاديمية الملكية الدنماركية في كوبنهاغن قبل أن يستقر به الحال في دريسدن، وهو في الرابعة والعشرين من عمره. ربما كان فقدان والدته في سن السابعة سبباً في جعله ميالاً للكآبة. وعندما أنقذه شقيقه الحبيب من الغرق، في سن الثالثة عشرة، ليموت هو الآخر، تضاعف ألمه مدى الحياة. وفي منتصف العشرينيات من عمره، وفي خضم أزمة نفسية، فاز بالجائزة الأولى في مسابقة غوته للفنانين الشباب عن رسوماته بالحبر البني الداكن والقلم الرصاص. وبعد أن زار غوته مرسمه عام 1810، عُرضت لوحته الزيتية "الراهب عند البحر" في برلين، حيث اشتراها ولي العهد، فريدريك ويليام الرابع ملك بروسيا. في اللوحة، تضرب أمواج بحر هائج أرضاً صلبة قاسية، بينما تُشكّل السماءُ المليئة بالضباب مسرحاً لغموض هائل، يطغى على الشكل الضئيل للراهب الذي يبدو متماهياً في جلال المشهد. وقد عرف الشعرُ الرومانسيُّ الألمانيُّ هذا الشعور، لكن لم يُجسّده أحد في الرسم. في العام 1824، رفضت دريسدن منحه كرسيّ أستاذيةِ الرسم الطبيعي الذي كان يطمح إليه، لكنها ضمنت له دخلاً يكفيه، وبطريقة ما، عاش هذا الرجل الخجول الأخرق، مدعوماً دائماً من أقاربِه في غرايفسفالد. تزوجَ وهو في الثالثة والأربعينَ من عمره، ويبدو بأن حياته كانت سعيدة مع كارولين، فقد أنجبا ابنتين وابناً. كان رساماً مخلصاً لفنه، ولم يعرف مهنة غير الرسم. أُصيبَ بجلطة دماغية في الحادية والستين من عمره، وتوفي بعد خمس سنوات.
كتاب فلوريان إليس، "سحر الصمت: رحلة كاسبر ديفيد فريدريش عبر الزمن"، الصادر عام 2025، هو بحد ذاته تحفة فنية. يمكنك قراءته وإلى جانبك كتاب يضم نسخاً من أعمال فريدريش، وخريطة تاريخية للأراضي الألمانية، ولوحة فنية رائعة، وفي الخلفية ربما تكون هناك موسيقى "رينسي" Rienzi لفاغنر. إنه متعة خالصة. فالمنهج المنظوري للكتاب، الذي يستكشف التداخلات الثقافية مثل صلته بفاغنر، هو حل بارع لندرة المواد السِيَرية عن فريدريش، خاصة أن حياته لم تشهد الكثير من الأحداث، باستثناء بعض الحرائق العرضية والغزو المقيت الذي قام به نابليون. كما أن هذا الكتاب هو سيرة لأعماله الفنية المادية ولشهرته – ومن خلاله يدخل إلى القصة هاينريش فون كلايست وراينر ماريا ريلكه وتوماس مان وفالتر غروبيوس، ناهيك عن هتلر ووالت ديزني. يظهر أيضاً كل من كورت فونيغوت وجيرهارد ريختر في أدوار ثانوية. وفي هذا الكتاب حصة أيضاً لكل من قصيدة "عزلة الغابة" "Waldeinsamkeit" لجوزيف فون آيشندورف وكذلك الاضطهاد النازي لليهود، مما يجعلني أعيد مشاهدة فلم "بامبي" وفلم "نوسفيراتو" الأصليَين برؤية جديدة. ويكتب إيليس التاريخ الثقافي الألماني بأسلوب آسر يتجاوز الحدود الوطنية، وهو ما يُشعرنا بالراحة والبهجة لمن يرى بأن الثقافة الألمانية ما تزال محصورة في خصوصيتها المتفردة. إن أسلوب الكتابة يُشرك القارئ إلى درجة أنك قد تجد نفسك تُدوّن ملاحظات حول نزهة في جبال الريزينغبيرغه خلف دريسدن؛ أو تخطط لرحلة بالقطار من دريسدن إلى هامبورغ، متوقفاً عند خمسة من أعظم لوحات فريدريش الفنية على طول الطريق.
تُعدّ لوحات "بحر الجليد"، و"منحدرات الطباشير في روغن"، و"المتجول فوق بحر الضباب"، المؤرخة جميعها في العام 1818أو نحو ذلك، والمسلّط الضور عليها جميعاً في هذا الكتاب، من بين الأعمال الفنية المفضلة عالمياً، حتى أن الأخيرة تعدّ صورة نمطية في سياقات أخرى. وتُعرَض هذه اللوحة، إلى جانب مجموعة قيّمة من كنوز المتاحف الألمانية والسويسرية، في المعرض الكبير لأعمال فريدريش الذي يُقام هذا الربيع في متحف المتروبوليتان للفن الحديث في نيويورك. أما ما ينقص هذا المعرض فهو العديد من لوحات فريدريش التي تمتلكها روسيا بشكل قانوني. وكان العنصر الحاسم في هذا الأمر هو صداقة فريدريش مع الشاعر الرومانسي الروسي فاسيلي جوكوفسكي، الذي، كما يُشير إليس، زار الفنان في دريسدن عام 1821، وتوسّطَ في بيع العديد من اللوحات للبلاط القيصري. ونتيجة لذلك، يضم متحف الإرميتاج في سانت بطرسبيرغ مجموعة فنية ضخمة ورائعة من أعماله، منها لوحة "الميناء ليلاً (الأخوات)"، و"شروق القمر فوق البحر"، و"على متن سفينة شراعية" (والتي تُرجمت في كتاب إيليس، على نحوٍ أقلّ دقة، إلى "على متن القارب الشراعي"). فهل كان التأمل في هذه اللوحات بعد قرابة قرنٍ من الزمان هو ما دفع كاندينسكي إلى القول بأن الروس وحدهم مَن يستطيعون فهم الروح الرومانسية الألمانية؟
تُظهِر لوحة "على متن سفينة شراعية" (1820) زوجين متشابكي الأيدي، يُبحران نحو حياة جديدة جالسيَن في مقدمة إحدى سفن فريدريش المحبوبة. وهذا العمل البني الداكن على الأشرعة والخطوط الرائعة للطقم البحري يدعم بقوة ادعاء إيليس بأنه هنا أيضاً كانت بداية الرسم التجريدي. وتتميز هذه اللوحات بدقة العلامات الشاحبة على جناح فراشة باهتة. كما تُبرِز لوحة "على متن سفينة شراعية" جرأة نادر في أعمال فريدريش، ألا وهي العلاقة الإنسانية الدافئة الحقيقية، رُسِمت بعد زواجه بفترة وجيزة. وتُشير لوحة أخرى يملكها متحف بوشكين في موسكو، بعنوان "منظر من سلسلة جبال شميدبيرغ"، إلى أن رسام المناظر الطبيعية فريدريش – بالنسبة لي على الأقل – كان مؤسساً لأسلوب فان جوخ. إنهما يشتركان في التقوى، ورغم أن مواقع فريدريش مثالية، إلا أن لديهما شعوراً واسعاً ومفصلاً بشكل رائع تجاه الطبيعة، مع صراع طفيف مع الشكل البشري، وصراع أكبر مع العلاقات البشرية.
أعتقد بأن الجانب الروسي من قصة فريدريش، مدعوماً بحقيقة أن العديد من أعماله كانت في متاحف ألمانيا الشرقية خلال الحرب الباردة، يُثير حزن إيليس وغضبه. ويروي كيف عادت لوحة "على متن سفينة شراعية" إلى دريسدن عام ٢٠٢٠ "في زيارة" بعد مئتي عام من وجودها في روسيا، حيث أشاد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بالرومانسية ووصفها بأنها "حركة فنية دولية فريدة"، يجسّدها فريدريش. وبما أن عودتها إلى روسيا عام ٢٠٢٢ تزامنت مع غزو أوكرانيا، فقد تبددت روح هذا التعليق على الفور. "ستظل يوتوبيا فريدريش المرسومة بعيدة المنال عن أعين الغرب لفترة طويلة".
أود فقط أن أضيف بضع كلمات بخصوص ترجمة هذه السردية الرائعة والملهِمة. إنها ترجمة سليمة وسهلة القراءة، ونادراً ما تحمل طابعاً غريباً. ولا يتوقع أيّ قارئ إنكليزي أن يجد إشارة إلى "ويليام" تيرنر. وفي الوقت نفسه، تبدو فكرة رسم فريدريش للوحة "سيدة على شاطئ البحر" مُضحكة للغاية. فقد كانت على شاطئ البحر، خائرة حزينة بسبب رحيل حبيبها، ولم تكن على كرسي الاستلقاء.
عن: ملحق التايمز الأدبي، 21-3-2025.