الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
امثال شعبيّة من الذاكرة العراقية


امثال شعبيّة من الذاكرة العراقية

نوري جاسم

 

في أزقة بغداد القديمة، بين المقاهي التراثية وصوت دقّ النراجيل، في الأسواق المكتظة برائحة البهارات وعبق الزمن، وُلدت الأمثال الشعبية العراقية، فكانت لسان حال الناس، ومرايا تنعكس فيها حكم الحياة، وهمومها، ومفارقاتها.

المثل الشعبي البغدادي ليس مجرد كلمات، بل تجربة، نكتة، عتاب، حكمة، نقد لاذع أو رثاء لحالٍ مرير. هذه الأمثال تسير فينا كما يسري نهر دجلة، صافية أحياناً، وعكرة في أحيانٍ أخرى، لكنها لا تتوقف عن الجريان.

الحديد يرنّ.. والناس تسمع

"حط الحديد على الحديد يصيح رن"، مثلٌ يُعلّمنا أن التلاقي بين الأقوياء يصنع صوتًا لا يُنسى. أما "اللي يأكل بضرسه ينفع نفسه"، فهو دعوة للاعتماد على الذات، و"الطول طول نخلة، والعقل عقل الصخلة" نقد لمن لا يتناسب ظاهره مع باطنه.

"اليدري يدري والما يدري كضبة عدس"؛ لاذعٌ هذا المثل، لمن يتكلم بغير علم، بينما "جانت عايزه التمت" ترسم صورة واقع مضحكٍ مبكٍ.

الظاهر والمستور

"طبل صوته عالي ومن جوه فارغ" يفضح الزيف، و"بالوجه مراية وبالظهر سلاية" يُصوّر النفاق، و"سبع صنايع والبخت ضايع" يختصر معاناة أصحاب المواهب المحرومين من الحظ.

"بخيرهم ما خيروني، بشرهم عموا عليه"، يشتكي من الجحود، و"اعمى يكود بأعمى"، يتهكم على الضياع الجماعي.

سخرية الواقع المر

"يسد ضوه الشمس بمنخل"، "مو كل من صخم وجهه كال آني حداد"، "مثل بلاع الموس"، و"موكل مدعبل جوز" كلها أمثال تسخر من التظاهر والمعاندة، ومن عبث المحاولة في غير محلها.

أما "اتغده بيه، كبل ما يتعشه بيك"، فهي توصية بالحذر والسبق في العلاقات، بينما "من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروج"، تجسيد للندرة التي تقود إلى التنازلات.

"ردناه عون طلع فرعون"، حكمة تعبر عن الخذلان، و"اللي يسوك المطي يتحمل ظراطه" مليئة بالتلقائية التي لا يجيدها إلا ابن العراق.

الأمثال تُنذر وتحذر

"المبلل ما يخاف من المطر"، "أبيش ابلشيت، يابو بشت"، "والطم لطم شمهوده"، و"اللي يشوف الموت يرضى بالسخونه"؛ كلها تعكس تقبّل المصير عند بلوغ القاع.

"نايم ورجليه بالشمس" يشير للغافل، و"اللي تلدغه الحيه بيده يخاف من جرة الحبل" تحذير لمن خبر الألم، و"الما يعرف يركص يكول الكاع عوجة" نقد للذين يبررون فشلهم.

حكمة التجربة ومرارة الخيبة

"الصواب اللي بغيرك، شدخ"، "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي"، "احاجيج يابنتي واسمعج ياجنتي"، "جزنا من العنب ونريد سلتنا"، وغيرها تسخر من تكرار الفشل، وقصر النظر.

"انطي الخبز للخباز حتى لو يأكل نصه"، "سوي زين، وذب بالشط"، "الحمل الثقيل ما يشيله غير صاحبه"، و"من لحم ثوره واطعمه" تقدم دروسًا في الأمانة، والتعب، والحقوق.

نقدٌ لاذع ونفاذ بصر

"يمن تعب يمن شكه يمن على الحاضر لكه"، "الشاذي بعين أمه غزال"، "الباب اللي تجيب الريح سده واستريح"، و"كلمن نصيبه يصيبه" تقرأ الواقع، وتحلّله برصانة شعبية.

"زود الغركان غطه"، "اش معلم الجحش بأكل النعناع"، "كلمن يمد رجله على كد ألحافه"، و"اشتعل بيت الكذاب محد صدكه"؛ تأديب وتنبيه وسخرية، لا تخلُ من عمق.

نهايات ونتائج… ليست دائماً سعيدة

"الزواج أوله عسل وتاليته بصل"، "اللي يتزوج أمي، يصير عمي"، "اجه يكحلها عماها"، "بعد ما شاب ودوه الكتاب"، كلها تنبّه إلى تناقض البدايات والنهايات.

أما "المايعرف تدابيره حنطته تأكل شعيره"، و"من هالمال حمّل جمال"، فهي دروس في التدبير ومصير التبذير.

مرايا بغداد لا تكذب

"يركض والعشا خباز"، "عمة عين البامية شكد تنفخ"، "الإمام اللي ما يشور ما يزوره أحد"، و"الغني فلوسه بعبه والناس تحبه"، تختصر تناقضات الحياة البغدادية ببراعة.

"كلمن يثرد يدري والي يأكل ما يدري"، "ما يعبر عليه قرش قلب"، "تساوت الكرعة وأم شعر"، و"تريد تعلم الواوي على لحم الدجاج"، دروس حادة عن العدالة والمعرفة والمستحيل.

وختامها... وجعٌ بنكهة النكتة

"الواحد ما يصير اثنين"، "الي ما يلوح العنب يكول حامض"، "أمشي شهر ولا تطفر نهر"، "هم نزل وهم يدبج ع السطح"، "ماكو دخان بلا نار"، "إجاك الموت يا تارك الصلاة"، و"ضاع الأخضر بسعر اليابس"؛ هذه الأمثال لا تحتاج إلى شرح، بل إلى تأمل.

أما "تريد أرنب اخذ أرنب، تريد غزال اخذ أرنب"، "أكل أكل أسباع وكوم أبساع"، و"جيب ليل وأخذ عتابة" فهي تحكي قصص الطمع، الجوع، والندم المتأخر.

الكلمة الأخيرة من بغداد

بغداد، أمّ الأمثال، تقول كل شيء ولا تقول شيئًا. تضحك، تبكي، تسخر، وتواسي، بصوت الناس، لا بصوت الحاكم. أمثالها لا تموت، بل تُبعث في كل جيل، بنغمة جديدة، ولون جديد، ولكن بذات الروح العراقية الصلبة. فهذه هي بغداد، من "الطابوك نام وانشكا اللكام" إلى "يد وحده ما تصفك"، ومن "يكد أبو كلاش يأكل أبو جزمة" إلى "الف صديق ولا عدو واحد"… بغداد لا تنضب من الحكمة ولا تجفّ من الحكاية، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ..


مشاهدات 41
الكاتب نوري جاسم
أضيف 2025/10/13 - 2:57 PM
آخر تحديث 2025/10/14 - 3:01 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 80 الشهر 8918 الكلي 12148773
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/10/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير