الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
القدِّيس

بواسطة azzaman

القدِّيس

حسن النواب

 

قبل خمسة عشر عاماً رحل بصمت هذا الصعلوك القدِّيس، مجرد خبر صغير ظهر على فضائية العراقية يعلن عن غيابه بنوبة قلبية، ولم استغرب عندما لم تُكتب بحقه كلمة رثاء حتى من أقرب أصدقائه إليه، ومن يكتب عنه؛ إذا كان جميع أترابه الصعاليك قد سبقوه إلى منازل الجنَّة، ولم يبق سوى الغجري نصيف الناصري الذي ربما الآن يمارس عبثه مع سيدة سويدية على فراش القصيدة المدجج بالحرمان والشهوات المكبوتة، أيا نصيف.. لقد رحل أبو الهوازن الذي كان يغدق بدمه وعسل قلبه علينا حتى نثمل ونشبع، أيا نصيف.. هل تذكر أبا هوازن يوم أخبرنا ذات ظهيرة في حانة البلور أنه سمّى ابنته هوازن تيمنناً بتلك القبيلة الجاهلية لأنها كانت آخر القبائل التي تدخل الإسلام؛ وهل تذكر منزله الواسع بمنطقة زيونة، حين يأخذنا بسيارته الهرمة لنقضي ما تبقى من الليل في جناحه المعزول عن الدار والذي أعدَّهُ خصيصا للصعاليك؛ وكيف كانت قصائدنا معلَّقة على جدار ذلك المشتمل الذي شهد خمرتنا وشعرنا وطعامنا الذي يحرص أنْ يقدمه لنا شهيَّا وساخناً. أجل لقد غادرنا سيف الدين الجراح الذي كان يرى بعذاباتنا صورة البلاد بوجهها الحقيقي ويتلمَّس بتمردنا وعبثنا وشعرنا أجمل أحلامه التي لم يتمكن من تدوينها على الورق. لقد كان كاتباً يهوى الأدب وضليعاً بلغة الضاد ونحوها وصرفها؛ لكنَّه لم يتمكن من تحقيق منجز إبداعي يستحق الانتباه؛ بالوقت الذي كان يراهن علينا وهو بذلك كان يترجم بشكل واضح عن عسر قلمه أمام جنونا الذي كان في أعلى فورته يوم ذاك، ومن لا يعرف سيف الدين الجراح أقول: أنَّهُ عقيد متقاعد في الهندسة العسكرية، أخذ ذات يوم بيد شاعرنا القروي كزار حنتوش إلى وحدة المساحة العسكرية التي تخلَّف عنها لشهور، إذْ كان كزار خريج معهد المساحة العالي؛ وقد انخرط مجبراً بالجيش كما نحن في حربنا مع إيران؛ وقد ذكر لي صديقي الحنتوش أنَّ أبا هوازن عندما دخل على آمر الوحدة العسكرية وكان برتبة رائد، نهض من مكتبه وأدَّى التحية للعقيد؛ فأجابه الجرَّاح قائلاً: أنت تؤدي التحية العسكرية لشخصي؛ لأني أقدم منك رتبة؛ وأنا أؤدي التحية العسكرية لكزار لأنه أقدم مني عذاباً ومن أهم الشعراء العراقيين إبداعاً، أجل هذا هو سيف الدين الجرَّاح الذي تشهد له حانة البلور بطيبة قلبه الرؤوم وبسخائه وكرمه على الجميع، ويوم كانت الحرب العراقية الإيرانية في أوج اشتعالها، وكان الواحد منا يرتجف أمام عريف ساذج في وحدته العسكرية، كنا في أيام الإجازة نجلس مع العقيد في حانة البلور وتكاد الناس لا تصدق أن هؤلاء الصعاليك يرفعون صوتهم بالنقاش الأدبي على عقيد في الجيش العراقي؛ ونحن مجرد جنود جاءوا بإجازة قصيرة وبعضنا كان هارباً من الجيش. كان العقيد لا يترك الحانة مالم يصرف آخر دينار في جيبه علينا، وأذكر أنَّهُ حدثني ذات ليلة عن واقعة طريفة جرتْ للصعلوك الراحل سلمان السعدي؛ يقول الجراح لقد كان معي بسيارتي العسكرية التي انطلقت بنا من بغداد؛ وكنا خلال الطريق إلى البصرة نتوقف في دار استراحة الضباط كلما رأينا إحداها على الطريق ونحتسي الجعة حتى وصلنا ثملين إلى الوحدة العسكرية، وحدث حينها أنَّ معركة الفاو الأولى كانت مشتعلة، وبسبب الفوضى الحاصلة في حينها؛ طلبتُ من السعدي الرقاد بمكتبي حتى يحين الصباح، وقد حذرته من شرب المزيد من الخمر، إذْ كانت هناك قارورة من ابنة الكروم حملتها معي على أمل أنْ نشربها حين تهدأ المعركة، وانصرفت إلى النوم بغرفتي، لما أطلَّ الصباح لم أجد السعدي في المكتب، وقلت ربما ذهب لقضاء حاجته، وفجأة وصلت إلى وحدتي العسكرية مجموعة من الجنود المتسربين عن المعركة بأمرة إحدى لجان الإعدام لغرض التحقيق معهم، ولما اعترضت على اختيار وحدتي العسكرية كمكان للتحقيق مع أولئك الجنود المرعوبين من الخوف، أجابني الضابط المسؤول عنهم وكان برتبة عقيد أيضاً، إنها أوامر آمر الفيلق، فلم أجبه بشيء وعدتُ إلى مكتبي حانقاً؛ ماهي إلاَّ دقائق حتى تناهى لي صوت السعدي مستغيثاً؛ وقد فوجئت حين رأيتهُ مقيد اليدين مع الجنود المتسربين من المعركة الذين كان ينتظرهم الإعدام دون شك. هرعت إليه مستفهماً؛ وعرفت أنَّهُ شرب قارورة الخمر بعد منامي وخرج يتجوَّل في مدينة البصرة؛ وقد تم إلقاء القبض عليه كجندي هارب من المعركة، قلتُ له هامساً: تستحق الموت؛ لأني حذرتك من الإفراط بالشرب؛ لتنقذك قارورة الخمر إذن؛ وابتعدت عنه بخطوات حتى جاء صوته متسائلاً بيأس وهل تقبل أنْ أُعدم بسبب قنينة عرق؟ فلم أتمالك نفسي وتبسمت لهُ طالباً من المسؤول أنْ يحرره من القيد؛ لأنه أحد الأدباء الذي جاء معايشة إلى جبهة الحرب؛ ويواصل العقيد حديثه قائلا: أما الجنود الذين تسربوا من المعركة فقد تم نقلهم إلى مكان آخر بعد اتصالي بآمري لأقول له بصراحة: نحن وحدة عسكرية هندسية؛ ولا يصح أنْ تتحول إلى مكان مشبوه للتحقيق مع جنود مساكين. وهكذا أخذوا الجنود المتسربين والذين لا أعرف ماذا حل بهم بعد ذلك؟ صحيح أنَّ سيف الدين الجراح لم يلفت الانتباه عمَّا كتبهُ بمجموعته القصصية المقاتل سين يتذكر، وروايته التي كانت بعنوان حدِّقْ عميقاً يا وطني، لكنه كان قدِّيسا من طراز خاص، وصعلوك برتبة عسكرية رفيعة، وكريما بشكل مثير، وأذكر أنهُ ذات ليلة أخذني مع صديقي الشاعر عقيل علي إلى جناحه المعزول في بيته الشاسع؛ وكانت أيام حصار

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 681 الشهر 4740 الكلي 12044595
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/10/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير