الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هل بات سقوط الولايات المتحدة الامريكية حتمياً؟

بواسطة azzaman

هل بات سقوط الولايات المتحدة الامريكية حتمياً؟

دور السياسات الاقتصادية في نهضة الأمم

محمد خليل جاسم العباسي

 

تُعَدّ السياسات الاقتصادية حجر الأساس في نهضة الشعوب وتقدمها، فهي البوصلة التي تحدد مسار التنمية وتوجه الموارد نحو الأهداف الكبرى التي تصبو إليها الأمة. وحين تنظر الشعوب إلى حاضرها ومستقبلها، فإن أول ما تعوّل عليه هو حسن تدبير الاقتصاد، لأنه الضامن لخلق فرص العمل، ورفع مستوى المعيشة، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وليس من المبالغة القول إن التاريخ الحديث لا يكاد يسجل تجربة تنموية ناجحة إلا وكان وراءها نهج اقتصادي واضح الرؤية، متوازن الأهداف، عادل الوسائل، يضع مصلحة الجماعة فوق المصالح الفردية الضيقة. فالاقتصاد ليس مجرد أرقام جامدة أو سياسات مالية جافة، بل هو مشروع حياة متكامل يعكس قدرة الشعوب على إدارة مواردها الطبيعية والبشرية وفق رؤية استراتيجية. فحين تُبنى السياسات الاقتصادية على أسس رشيدة، تُوظَّف الثروات الوطنية في بناء البنية التحتية، وتطوير التعليم والصحة، وتشجيع الابتكار، وتحفيز الاستثمار، مما ينعكس مباشرة على قوة المجتمع وتماسكه. أما حين يسود الهدر وسوء الإدارة، فإن الموارد تتحول إلى نقمة، وتغدو الثروات سبباً للاضطراب والتبعية، كما شهدت كثير من البلدان التي لم تُحسن استثمار إمكاناتها. ولا يقتصر أثر السياسات الاقتصادية على الجانب المادي وحده، بل يتعداه إلى صميم بناء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء. فالشعوب التي تنعم بقدر من العدالة الاقتصادية تشعر بوجود عقد اجتماعي عادل يربط الفرد بالدولة، ويجعل المواطن يرى في الوطن مجالاً لتحقيق أحلامه وطموحاته. أما غياب العدالة، وما يرافقه من فوارق طبقية صارخة وتهميش لفئات واسعة، فإنه يولّد شعوراً بالغبن، ويضعف الثقة بالمؤسسات، ويؤدي إلى هشاشة البنية الاجتماعية، الأمر الذي يعرقل مسيرة التنمية برمتها.ومن جانب آخر، فإن السياسات الاقتصادية الرشيدة هي التي تستطيع الموازنة بين الانفتاح على العالم والاستقلال في القرار. فالعولمة تفرض على الشعوب قدراً من التفاعل مع الاقتصاد العالمي، غير أن الانفتاح غير المدروس قد يحوّل الاقتصاد الوطني إلى تابع للأسواق الخارجية، في حين أن السياسات المتوازنة تمكّن الدول من جذب الاستثمارات وتبادل الخبرات مع الحفاظ على مصالحها العليا وحماية قطاعاتها الحيوية. ولعلّ أبرز ما يميز الشعوب الناهضة قدرتها على صياغة سياسات اقتصادية مرنة تستجيب للمتغيرات الدولية من غير أن تفقد خصوصيتها واستقلالها. ولا يمكن إغفال أن الاستقرار الاقتصادي هو الركيزة التي تتكئ عليها الشعوب في مسيرتها نحو النهوض أو في انحدارها نحو السقوط، والسياسات المالية تمثل الأداة الأبرز التي تحدد مسار هذه الرحلة. فحين تُدار الموارد العامة بوعي، ويوجَّه الإنفاق نحو البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والابتكار، فإن الأمة تضع قدميها على طريق التقدم المستدام، أما حين تسود الفوضى المالية، ويُغرق الاقتصاد في الديون، وتُهدر الثروات على حساب الاستثمار في المستقبل، فإن عوامل الانهيار تتسلل تدريجياً مهما بلغت قوة الدولة العسكرية أو السياسية. ومن هنا نفهم كيف أن التاريخ يسجل لنا صعود أمم عظيمة بفضل سياساتها الاقتصادية والمالية الرشيدة، كما يسجل سقوط أخرى نتيجة سوء إدارتها لمواردها.

الولايات المتحدة الأمريكية تُعَدّ نموذجاً معاصراً لهذا الجدل بين الصعود والهبوط. فقد صارت القوة الأولى في العالم بفضل سياسات مالية متينة أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ استثمرت في البنية التحتية الضخمة، ودعمت التعليم والبحث العلمي، وشجعت على الابتكار، مما جعلها تقود الثورة الصناعية الحديثة وتفرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي. غير أن العقود الأخيرة شهدت ملامح تراجع تكمن في تضخم الدين العام الذي تجاوز مستويات غير مسبوقة، وفي تزايد العجز المالي الذي يثقل الموازنة الفيدرالية، إضافة إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي وتركز الثروة في أيدي قلة قليلة، ما يهدد استقرار المجتمع ويضعف العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه.

ثقة الاسواق

كما أن السياسات الاقتصادية الأمريكية الحديثة تتعرض لانتقادات حادة بسبب اعتمادها المفرط على طباعة النقود والديون لتمويل الإنفاق الحكومي، وهو ما يضعف قيمة العملة على المدى الطويل ويجعلها رهينة لثقة الأسواق. صحيح أن الدولار ما يزال عملة الاحتياط الأولى عالمياً، وهو ما يمنح واشنطن امتيازاً فريداً في الاقتراض والتمويل، لكن استمرار الإنفاق بلا ضوابط قد يقوّض هذه المكانة تدريجياً إذا ما تزايدت المنافسة من قوى اقتصادية أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي.

تنمية داخلية

وفوق ذلك، فإن السياسة المالية الأمريكية لم تعد في نظر الكثيرين خادمة للتنمية الداخلية بقدر ما أصبحت أداة للصراع السياسي بين الأحزاب، فتتأخر القرارات المصيرية المتعلقة بالموازنة أو سقف الدين بسبب الخلافات الحزبية، مما يضع الاقتصاد أمام أزمات متكررة تُضعف ثقة المواطنين والمستثمرين على حد سواء. وهذا الانقسام في إدارة المال العام يُعَدّ أحد أبرز التهديدات التي قد تُعجّل بضعف أمريكا من الداخل مهما بدت قوية في الخارج.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الولايات المتحدة ما زالت تمتلك من عناصر القوة ما يؤهلها للاستمرار، فهي تتصدر في مجالات الابتكار والتكنولوجيا والبحث العلمي، وأسواقها المالية لا تزال الأكثر جاذبية في العالم، كما أن قدرتها على جذب العقول والمواهب تمثل رصيداً متجدداً. لكن هذه العناصر قد لا تكفي إذا لم تُصحَّح مسارات السياسة المالية، وإذا لم تُستثمر الثروات العامة في خدمة المواطن العادي وتعزيز العدالة الاجتماعية وحماية الطبقة الوسطى، التي تشكّل العمود الفقري لاستقرار أي مجتمع.إن التجربة الأمريكية تُثبت بوضوح أنّ الاقتصاد والسياسة المالية ليسا شأناً فنياً بحتاً، بل هما مسألة وجود ومصير، وأنّ مستقبل الأمم يتحدد بقدر ما تُحسن إدارة أموالها واستثمار مواردها. فإذا استمرت أمريكا في نهجها الحالي من العجز والديون والتفاوت، فإنها تقترب خطوة بخطوة من الانحدار، أما إذا نجحت في إصلاح سياساتها المالية وتوجيهها نحو بناء الإنسان وتعزيز العدالة والاستدامة، فإنها ستتمكن من إطالة أمد تفوقها العالمي. وهكذا يظل الاقتصاد، عبر سياساته المالية، الأساس الذي تصعد به الأمم أو تنهار، والولايات المتحدة ليست استثناء من هذه القاعدة. فتنمية الشعوب ليست وليدة الصدفة ولا ثمرة لقرارات آنية، بل هي نتيجة مباشرة لرؤية اقتصادية شاملة تنظر إلى الحاضر بعين الحكمة وتستشرف المستقبل بعين البصيرة. والسياسات الاقتصادية التي تُبنى على العدالة والاستدامة وتستثمر ثروات الأمة في بناء قدراتها الإنتاجية والعلمية، هي وحدها القادرة على أن تضع الشعوب في موقع الريادة، وتجعلها فاعلاً في مسيرة الحضارة لا مجرد تابع لها. وإذا كانت الأمم تتفاوت في قوتها ونفوذها، فإن العامل الفارق بين أمة وأخرى هو مدى قدرتها على صياغة سياسات اقتصادية تعبر عن إرادتها الجمعية، وتترجم طموحاتها إلى إنجازات ملموسة، وتحوّل مواردها إلى قوة حقيقية ترفع شأنها وتُرسخ مكانتها بين الأمم.

 


مشاهدات 98
الكاتب محمد خليل جاسم العباسي
أضيف 2025/09/29 - 3:10 PM
آخر تحديث 2025/10/01 - 2:20 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 450 الشهر 450 الكلي 12040305
الوقت الآن
الأربعاء 2025/10/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير