التسيب القيمي والسلوكي في المجتمع العراقي
مروه العميدي
يمثل الانفلات الأخلاقي من أبرز الظواهر الاجتماعية التي تهدد استقرار المجتمعات وتماسكها القيمي، ويتمثل بتراجع منظومة القيم والسلوكيات التي تضبط تعامل الإنسان مع ذاته ومجتمعه وتفاعله في مختلف الميادين، وهو ظاهرة متنامية في كثير من البيئات المعاصرة خاصة البيئات التي عانت من الأزمات والحروب والحصار، تمتد هذه الظاهرة لتصيب البنية الاجتماعية والثقافية للأمة في عمقها ولا تقتصر على الأفراد فحسب. وعليه فالانفلات الأخلاقي هو حالة التسيب القيمي والسلوكي التي يفقد فيها الفرد التزامه بالمعايير الأخلاقية والدينية والاجتماعية المتعارف عليها، وهو يمثل انحرافًا متكررًا ومنهجيًا عن الضوابط التي تحكم السلوك الإنساني في المجتمع.
ويرتبط الانفلات الأخلاقي بضعف الوازع الديني المتمثل بالتراجع في الوعي الديني والابتعاد عن القيم الروحية وهو واحد من أهم الأسباب الجوهرية، إذ يؤدي إلى فراغ داخلي يجعل الفرد عرضةً للانجراف وراء النزوات والمغريات، يقول (توماس هوبز):
"حين تغيب الأخلاق، يعود الإنسان إلى طبيعته الأولى ذئب لأخيه الإنسان"، وهو هنا يشير إلى أن القيم هي ما يكبح العدوانية الفطرية لدى البشر، وأن انحلالها يعني عودة الفوضى.
وضعف تآزر الأسرة خاصة أن الأسرة تمثل المؤسسة الأولى للتنشئة الأخلاقية وعندما تتصدع أركانها بالطلاق أو الإهمال أو العنف الأسري ينعكس هذا سلبًا على تربية الأبناء وسلوكهم، وتأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل غير المنضبط، إذ تلعب دورًا محوريًا في نشر أنماط سلوكية دخيلة، تجمل الانحراف وتضعف الحس النقدي لدى المتلقين خصوصًا فئة الشباب، والانفتاح غير الواعي على الثقافات الغربية الدخيلة، إذ أدت العولمة إلى انفتاح غير منضبط على ثقافات مختلفة بعضها يحمل قيمًا تتعارض مع هوية المجتمع وأخلاقه، مما أوجد صراعًا قيمياً في الوعي الجمعي، إضافة إلى غياب القدوة وانهيار الثقة بالمؤسسات الاجتماعية والتربوية، وانهيار النماذج المجتمعية حين يغيب المثال الأخلاقي في البيت والمدرسة ومؤسسات الدولة تتراجع المعايير ويصبح السلوك المنحرف أمرًا اعتياديًا، يقول (جان جاك روسو):
"حين تقاس قيمة الإنسان بما يملك لا بما هو عليه تموت الفضيلة ويولد الفساد"، وهو هنا يشير إلى أن المادية المفرطة تضعف القيم وتخلق التسيب السلوكي في المجتمع.
ولا ننسى أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية لها دورًا بارزًا في الإنفلات الأخلاقي، إذ يفضي الفقر والبطالة والتمييز إلى الإحباط الاجتماعي فيسعى بعض الأفراد إلى تجاوز القيم بحثًا عن النجاة المادية بأي وسيلة.
وللإنفلات الأخلاقي آثارًا وخيمة تتخذ صور كثيرة منها تفشي الفساد وانتشار الفساد الإداري والمالي، إذ يسهل على من تهاوت منظومته الأخلاقية تبرير السرقة والغش والمحسوبية دون وازع داخلي، وضياع الهوية وتفكك النسيج الاجتماعي، فالمجتمع الذي تتراجع فيه القيم يفقد تماسكه ويحل محل التضامن الاجتماعي منطق المصلحة الفردية.
هذا فضلًا عن تدهور العلاقات الإنسانية وانتشار العنف اللفظي والجسدي اللذان يتركان آثارًا نفسية جمة، إذ يعيش الفرد المنفلت أخلاقيًا حالة من الاضطراب الداخلي وفقدان المعنى والتوازن النفسي مما يولد لديه القلق والاكتئاب والعزلة خاصة بعد أن يعيش بلا بوصلة قيمية توجه سلوكه أو تضبط شهواته، إضافة إلى ضعف الانتماء الوطني فحين يغيب الحس الأخلاقي تتراجع قيم الإخلاص والمسؤولية تجاه الوطن والمجتمع وتدهور العلاقات الإنسانية، فيتحول التعامل بين الناس من مبدأ الاحترام المتبادل إلى منطق المنفعة والاستغلال، وينعكس عذا على انهيار الثقة بالمؤسسات وتفشي السلوكيات غير الأخلاقية وزعزعة ثقة المواطن في العدالة والتعليم والسياسة.
ومن ثم فإن مواجهة هذه الظاهرة تستلزم تربية أخلاقية متوازنة وإصلاحًا ثقافيًا وإعلاميًا يعيد الاعتبار للقيم والضمير الجمعي، فتقتضي الحاجة إلى مواجهة الانفلات الأخلاقي مقاربة شاملة تتداخل فيها الأبعاد الدينية، والتربوية، والثقافية، والإعلامية، واتمثل أبرز آليات الإصلاح في إعادة إحياء القيم الدينية والإنسانية في المناهج التربوية والبرامج الإعلامية، وتمكين الأسرة من أداء دورها التربوي من خلال الدعم المادي والتوعوي مع إشاعة القدوة الصالحة في مؤسسات الدولة والمجتمع، وتفعيل القوانين الرادعة للسلوكيات المنافية للأخلاق العامة، وتعزيز الوعي عن طريق نشر ثقافة الحوار والانفتاح الواعي بما يرسخ القيم مع احترام التعدد والاختلاف.