من التوافقية الهشّة إلى المعارضة الفاعلة
مجاشع التميمي
بات الإصرار على إجراء الانتخابات المقبلة في موعدها أمراً واقعياً، ما لم تتدخل عوامل خارجية كالموقف الأمريكي أو التصعيد الصهيوني، سواء كان داخل العراق أو في مواجهة جديدة مع إيران. غير أنّ التحديات الداخلية تضغط أكثر من أي وقت مضى؛ فالعراق يواجه أزمات متراكمة تبدأ بالفساد الإداري والمالي، وسوء الإدارة، وانتشار السلاح، وضعف القرار السياسي، فضلاً عن البطالة والفقر وتراجع مقبولية النظام السياسي لدى الشارع، ما جعل الثقة بين المواطن والدولة في أدنى مستوياتها.
وتزداد خطورة الوضع بفعل الأزمات البيئية، ولا سيما الجفاف، إلى جانب التأثير المباشر للعقوبات الدولية على إيران بعد فشل مفاوضاتها مع الجانب الأوروبي، إذ يعتمد الاقتصاد الإيراني بشكل كبير على السوق العراقية لتغطية ما يقارب ثلث موازنته. هذا التداخل يعمّق هشاشة العراق الداخلية، ويجعله ساحة ضغوط وتقاطعات إقليمية ودولية.
في ظل هذا الواقع، يصبح الإصلاح السياسي ضرورة وجودية. فالنهج التوافقي بصيغته الحالية لم يعد قادراً على إنتاج حكومة مستقرة، بل جعل أي رئيس وزراء عرضة للفشل والانهيار المبكر، حيث تشير التقديرات إلى أنّ أي حكومة ستسقط خلال عام إذا استمر هذا الوضع السياسي في المرحلة المقبلة. هنا يبرز دور المادة (76) من الدستور، التي تحدد آلية تكليف رئيس مجلس الوزراء من قبل رئيس الجمهورية باعتباره مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً.
لكن المشكلة تعقّدت بفعل التفسير الذي قدّمته المحكمة الاتحادية العليا في فترة القاضي جاسم العميري، إذ فسّر النص على نحو ألزم توفر ثلثي أعضاء مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية قبل المضي بتكليف رئيس الوزراء. هذا التفسير أضعف النظام السياسي، وضيّع فرص الإصلاح، وأدخل البلاد في أزمات سياسية متكررة.
اليوم، يتطلع العراقيون إلى دور إيجابي للمؤسسات القضائية، وخصوصاً القاضي فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، الذي أبدى مواقف صريحة بضرورة إعادة النظر في بعض الاجتهادات الدستورية، وفي مقدمتها تفسير المادة (76)، بما يعيد التوازن ويمنح العملية السياسية مرونة أكبر ويهيئ الأرضية للإصلاح.
الحل الواقعي يكمن في أن تتولى القائمة الفائزة ضمن البيت الشيعي، سواء كانت إسلامية أو مدنية، تشكيل الحكومة باعتبارها المكوّن الأكثر عدداً، حتى وإن بدأت بخمسين مقعداً فقط، على أن تعزز نفسها بتحالفات مع أطراف شيعية أخرى وقوى سنية وكردية لتشكيل كتلة كبرى تصل، على سبيل المثال، إلى نحو 185 نائباً.
في المقابل، ستكون المعارضة بحدود 144 نائباً، وهو رقم كبير ومؤثر، قادر على مراقبة الأداء الحكومي ومحاسبته وإسقاطه إذا فشل. أما السعي إلى بلوغ 220 نائباً، فهو أمر صعب بل شبه مستحيل، لأنه يعيد إنتاج نظام المحاصصة ويجعل الحكومة أسيرة لتوازنات هشّة، بدلاً من أن تكون حكومة أغلبية حقيقية. المعادلة إذن واضحة: حكومة أغلبية بـ185 نائباً (مثلاً) مقابل معارضة بـ144 نائباً.
هذه الصيغة، إذا أُقرت، يمكن أن تفتح الباب لبناء نظام سياسي أكثر توازناً، شرط أن تقترن بإرادة سياسية عراقية خالصة، تعطي الأولوية للإصلاح ومعالجة أزمات الفساد والفقر والبطالة، وتعيد الثقة تدريجياً بين الدولة والمجتمع.