الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الجميلي .. حين تتحول اللوحة مرآة للروح والذاكرة

بواسطة azzaman

الجميلي .. حين تتحول اللوحة مرآة للروح والذاكرة

مزج مدروس بين التجريد والسريالية بخيالها الجامح

عصام البرّام 

 

 

بين أروقة قاعة صلاح طاهر في دار الأوبرا المصرية وفي فضاء الفن التشكيلي العربي، يبرز اسم الفنان العراقي مطيع الجميلي كواحد من الأسماء التي تركت بصمة مميزة في عالم التشكيل، من خلال مسيرة طويلة أمتدت لعقود، جسّد خلالها رؤاه ومواقفه بأسلوب فني متفرّد، جمع معرضه بين الرمزية والتجريدية، دون أن يتقيد بحدود مدرسة فنية واحدة.

ولد الجميلي ونشأ في العراق، حيث تشبّع بثقافة بلاد الرافدين، فانعكس ذلك بوضوح في أعماله التي كثيرًا ما تستحضر الرموز الحضارية والإنسانية. أقام أكثر من 21 معرضًا تشكيليًا فرديًا، توزعت ما بين بغداد وعمان والقاهرة، إلى جانب مشاركات في معارض وفعاليات فنية في مدن عربية وأجنبية، كانت جميعها محطات مهمة في تطور تجربته الفنية وتوسيع حضوره الإبداعي عربيًاوعالمياً.تميزت أعماله بتقنية عالية وحس تعبيري قوي، حيث مزج بين الرمزية التي يعبر بها عن قضايا الإنسان والمجتمع، وبين التجريد التي تحاكي اللحظة وتوثق الإحساس البصري والوجداني، وقد لا تخلو بعض لوحاته من تأثيرات من مدارس أخرى كالمدرسة الانطباعية والسريالية، في تناغم فني مدروس يعكس عمق وعيه البصري وثقافته الفنية الواسعة. في لوحات الجميلي، تتناغم الألوان لتروي قصصًا عن الهوية، والمنفى، والحنين، والحلم، حيث تستوقف المتلقي لا لتُقدِّم إجابات جاهزة، بل لتدفعه إلى التفكير والتأمل والتفاعل مع العمل الفني. وقد استطاع بأسلوبه الخاص أن يُكوِّن لغة بصرية فريدة، يتعرف عليها المتذوقون دون الحاجة إلى توقيع. وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها الفنانون العراقيون، خصوصًا في ظل الاضطرابات السياسية والظروف الصعبة التي مر بها العراق، فإن مطيع الجميلي بقي وفيًّا لرسالته الفنية، مؤمنًا بأن الفن لغة وجمال وأمل بمستقبل عراقي متطور.واليوم، يقف الجميلي في مصاف الفنانين العرب الذين أسهموا في إثراء الحركة التشكيلية في المنطقة، مؤكدًا أن الهوية الفنية العراقية ما زالت نابضة بالحياة، ومستمرة في التعبير والتجديد، رغم كل التحديات. في مسيرة فنية تجاوزت العقود، استطاع الفنان العراقي الجميلي أن يبني عالَمًا تشكيليًا خاصًا به، عالَمًا يعكس فيه انفعالاته الداخلية، وقلقه الإنساني، وتأملاته في الهوية، والزمن، والوجود.

الوعي الجمعي

في كثير من لوحاته المعروضة ، تتجلى فيها الرمزية والتجريد كأداة تعبيرية أساسية، حيث لا تظهر العناصر بشكل مباشر أو واقعي، بل تأخذ شكلاً مشحونًا بالدلالات والإيحاءات. نرى الوجوه، الأشكال، المفاتيح، الأقنعة، الطيور، والشخوص الغامضة، وكأنها رموز لحالات نفسية أو اجتماعية أو سياسية.فلوحاته ليست مجرد مشاهد صامتة، بل هي نصوص بصرية مفتوحة على التأويل. المرأة في أعماله، مثلًا، ليست جسدًا بل كيانًا روحيًا يمثل الأرض، الوطن، الأمل، أو الحنين. والوجوه التي يرسمها لا تعبر عن أشخاص بعينهم، بل عن حالات إنسانية، وكأنها وجوهنا جميعًا.بالإضافة إلى الرمزية، تُلاحظ في أعمال الجميلي تأثيرات الانطباعية، خصوصًا من خلال طريقته في التعامل مع الضوء واللون. ألوانه دافئة، نابضة، تارةً متوهجة وتارةً باهتة، كأنها تعكس تغيّر المشاعر أو تبدّل الذاكرة. ضربات الفرشاة السريعة والحرة تمنح اللوحة حركة داخلية، تجعلها تنبض بالحياة، حتى في أكثر المواضيع حزنًا أو تأملًا.في بعض أعماله، يقترب من الانطباعية التجريدية، حيث تختفي المعالم تدريجيًا لصالح اللون والشكل، في محاولة لالتقاط الجوهر بدل الشكل الخارجي.

لا يكتفي الجميلي بالرمزية والتجريدية، بل يستعير من التجريد روحه الحرة، ومن السريالية خيالها الجامح. بعض لوحاته تخلق مشهدًا حلميًا يتجاوز المنطق الواقعي، حيث تتجاور الرموز مع الخطوط المتداخلة، وتتمازج المساحات اللونية دون أن تفقد توازنها البصري.هنا، يبدو الفنان كمن يكتب يوميات داخلية بلغة اللون، حيث لا يهم أن (تفهم) اللوحة بقدر ما يهم أن (تشعر) بها. إنه يضع المشاهد أمام حالة شعورية أكثر منها وصفًا بصريًا.

ويمتلك الجميلي قدرة خاصة على إستخدام اللون كأداة للبوح. ألوانه ليست فقط عناصر تشكيلية، بل كيانات ذات طابع نفسي وروحي. الأزرق في أعماله ليس فقط لونًا بل دلالة على الحزن أو التأمل. الأحمر يحمل الانفعال، الشغف، وربما العنف أحيانًا. الأصفر يشير إلى الضوء والدهشة، أو ربما الحنين.

الهوية والمنفى

وفي هذا السياق، يمكن اعتبار لوحاته نوعًا من الموسيقى البصرية، حيث تتناغم الألوان لتنتج إيقاعًا داخليًا يحرك المشاهد، ويدفعه إلى الاستغراق في اللوحة كمن يستمع إلى لحن لا يُنسى.

كونه ابن العراق، فإن أعمال الجميلي لا تخلو من الحنين إلى الوطن، والتفاعل مع قضايا الإنسان العربي. المنفى، الاغتراب، التحولات السياسية والاجتماعية، كلها موضوعات تظهر في لوحاته، وإنْ بطريقة غير مباشرة. لا شعارات ولا سرديات جاهزة، بل رموز وملامح تشير إلى صراع داخلي عميق، وحوار مستمر بين الفنان وذاته، وبين الذات والعالم.لوحاته، في كثير منها، تشبه قصائد بصرية مكتوبة بلغة تتجاوز الكلمات، لكنها تصل إلى القلب مباشرة، لأنها نابعة من صدق التجربة وعمق الرؤية.

إن النظر الى لوحاته توحي للمتلقي بأنه ليس فقط رسامًا، بل حارسًا للضوء والمعنى. أعماله تقف على الحدود بين الواقع والخيال، بين الحلم والذاكرة، بين الذات والمجتمع. في كل لوحة يرسمها، يترك قطعة من روحه، ومن ماضيه، ومن رؤيته للعالم. وفي زمن تسوده السرعة والسطحية، تأتي أعمال الجميلي كدعوة للتأمل، للتوقف، ولرؤية ما هو أبعد من الشكل. إنها دعوة للدخول في عالم لا يُرى بالعين فقط، بل يُقرأ بالقلب والعقل معًا.

 

 


مشاهدات 191
أضيف 2025/09/24 - 2:14 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 3:50 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 112 الشهر 19349 الكلي 12037222
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير