الحرب الكورية
قيس الدباغ
أثناء حرب الثمانينيات، قام الفيلق الثالث بتوزيع كتاب “الحرب الكورية” التي خاضها الجيش الأمريكي، وألزم كل آمر فوج بتقديم بحث في أي موضوع يختاره من الكتاب، مع تنظيم مسابقة في مقر الفيلق لأفضل بحث مُقدّم.
الغريب أن آمر فوجنا كان ضابطاً مجنداً، ليس له خبرة في الاحتراف العسكري، وكان متكاسلاً جداً لا يغادر موقعه المحصن إلا إذا حضر زائر رفيع المستوى إلى الفوج؛ حينها يكون مضطراً لمرافقته إلى قاطع عمليات الفوج.
عندما وصل الأمر بكتابة البحث، ألقاه جانباً ولم يكترث له. ولكن بعد أيام، اتصل به آمر اللواء وشدد على أهمية أن يكتب كل آمر فوج بحثاً حول الموضوع، وهدد بعقوبات شديدة من الفيلق. عندها أرسل إليّ آمر الفوج قائلاً: “هاك، خلّصني من هذه الطركاعه،
فقلت: “سيدي، هذا بحث عسكري يحتاج إلى شخص ذي خبرة عسكرية بمستوى قائد فوج.”
فأجاب: “شربتها كلاوات ومشيتها.”
أخذت الكتاب وذهبت إلى ملجئي، وما إن بدأت القراءة حتى تعلقت بالكتاب تعلقاً شديداً؛ فهو يحكي مذكرات ضابط في الجيش الأمريكي خلال الحرب، وكان بمستوى قائد سرية قتالية مجحفلة ضمن فوج معركة. أعجبني الكتاب حقاً، وأسلوب سرد المذكرات، والصعوبات التي واجهتها وحدته القتالية، لدرجة أنني وجدته يصلح لأن يكون فيلماً هوليوودياً.
راجعت القائد وقلت: “سأكتب بحثاً عن الموضوع وسأختار بيئة مشابهة لقاطع نهر جاسم، بشرط أن يكون المكافأة المالية من نصيبي إن حصل البحث على مرتبة متقدمة، والعينية لك يا سيدي.”
فأجاب مبتهجاً: “كلها لك، بشرط أن تنجز بسرعة.”
تحمست كثيراً للعمل، وتعمقت في الموضوع، واستطعت أن أجد رابطاً بسيطاً بين المعارك هناك في كوريا وهنا عند نهر جاسم. وركزت على استخدامهم لعربة الجيب الأمريكية خفيفة الحركة، وعربة السانتانا البرازيلية حاملة المدفع 106 ملم المضاد للدروع، وأسلوب المناورة والهجوم.
أكملت البحث وأرسلته إلى الخلفي لغرض الطباعة والترتيب وفقاً لدليل كراسة الأركان. تم كل شيء في أقل من أسبوع، وقدّمته لآمر الفوج ليقرأه. قام بتصفحه ثم أرسله إلى مقر اللواء، ومن هناك إلى مقر الفيلق.
لم تمضِ إلا بضعة أسابيع حتى استدعاني القائد وهو في حالة عصبية، قال: “أخوية رومل، هذا اللي سويت؟”
فأجبته: “خير.”
فقال: “مطلوب مني أن ألقي محاضرة عن البحث في مقر الفيلق، حيث فاز بالمركز الثالث. غداً عصراً يجب أن أكون هناك. بسرعة، هات البحث وتعال نقرأه سوية.”
المشكلة أن البحث طُبع نسختين فقط: نسخة أُرسلت، والنسخة الثانية احتفظ بها القائد. جُنّ جنونه وصاح: “لقد أضعتها!”
عدت إلى المسوّدات وحاولت أن أرتبها مرة أخرى، وطلبت منه أن يكتبها بخط يده وأنا معه لكي ترسخ في ذهنه.
ذهب إلى مقر الفيلق وعاد ليلاً مبتسماً، ومعه ساعة منضدية ومجموعة أقلام هدية لحصوله على المركز الثالث.
قلت: “سيدي، والمكافأة النقدية؟”
فأجاب بحدة: “ما تسوى، أنا استلمتها.”
أخبرني أحد أفراد الحماية أنها كانت 300 دينار في ذلك الوقت، وتعادل ضعف راتبه وراتبي أيضاً.
وهكذا سُرق جهدي، كما سُرقَت أرواح عشرات الآلاف من الشباب المظلومين.
رحم الله كل شهداء العراق رحمة واسعة.