صفا لطفي تعانق الفن والمعرفة في عراق يتجدّد
تشكيلية تلامس جداريات الماضي بروح معاصرة
محمد علي محيي الدين
في أرض الحلة، حيث ما زال الفرات يُرتل ترانيمه القديمة على أطلال بابل، ويغزل الضوءُ خيوطه فوق أكتاف الحضارة، ولدت الدكتورة صفا لطفي عام 1973، وكأن ميلادها كان استجابة لصوت داخلي في قلب الزمن يقول: إن للفن رسولة... وإن للعلم امرأة تتقد كالشعلة.
لم يكن اختيارها لطريق الفن خيارًا عابرًا، بل كان قدرًا تتخلله نبوءة؛ ففي طفولتها الأولى، كانت تقف مأخوذةً أمام جداريات المدارس، تنظر إلى الألوان كما لو كانت أصواتًا، وتحاور الخطوط كما لو كانت أنفاسًا. وما إن التحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة بابل، حتى بدا واضحًا أن روحًا فنية فريدة قد دخلت إلى الحقل الأكاديمي، لا لتحصل على شهادة، بل لتمنح الكلية بُعدًا آخر من التألق.
تخرجت عام 1994، وكانت الأولى على دفعتها، ليس لأن الدرجات وحدها نطقت بتفوقها، بل لأن أعمالها كانت تنطق بذاتها، ولأن روح الجمال التي كانت تسكنها، سكنت قاعات الدرس أيضًا. ثم أتمت دراستها العليا فنالت الماجستير عام 1999، لتكون أول من ينال هذه الدرجة من الكلية، تسبق زملاءها لا بالتوقيت فحسب، بل بالرؤية وبالرسالة. ثم تابعت طريقها نحو الدكتوراه في «جماليات التصميم في الفن والعمارة» سنة 2006، لتغدو منارة من منارات الفكر الجمالي في العراق.
لكن صفا لطفي لم تكن مجرد باحثة أكاديمية، بل كانت نهرًا جارياً من العطاء؛ فقد نشرت أكثر من سبعين بحثًا علميًا محكمًا، تغلغلت من خلالها في قضايا الجمال والهوية والتشكيل، وكتبت أكثر من أربعين مقالة في مجلات عربية وعالمية، لم تكن فيها مجرد ناقدة أو باحثة، بل شاهدة على تحولات الذوق الفني ومرافعة باسم الفن ضد السطحية والابتذال.
نقد فني
وفي كتابها البديع «النقد الفني وقراءة في فن الرسم الحديث»، لم تكتب عن الجمال فحسب، بل كتبت به ومنه؛ قرأت تاريخ الرسم الحديث كمن يعيد اكتشاف الحلم، ولامسَتْ جداريات الماضي بروح المعاصرة، فتلاقحت في كتابها المدارس والتيارات، وتآلف العقل مع الحسّ، وأصبح الكتاب مرجعًا للباحثين، ونافذةً لكل من أراد أن يرى الفن لا بوصفه زخرفة بل بوصفه هوية ووعيًا.
وما بين المقالة والبحث، كانت لطفي تنثر لوحاتها على جدران المعارض في العراق والعالم، فقد أقامت سبعة عشر معرضًا تشكيليًا، لم تكن فيها الألوان مجرد عناصر تصميم، بل كانت رؤىً فلســفية تتداخل فيها العمارة بالأسطورة، والأنثــــــــى بالذاكـــــرة، والحــــــــاضر بهواجس الغد.
ولأن العقل الذي يسكنه الفن لا يكتفـــي بالحلم، كان لا بد للواقع أن يشهد ببصماتها، فأنجزت أكثر من أربعين براءة اختراع ونموذجًا صناعيًا، معظمها في حقل التصميم والفــــن التطبيقي، حيــــث التقت الجماليات بالحلول، والخيال بالوظيفة. ونالت على ذلك عشرات الجوائز والأوسمة، منها «وسام يوم العلم» من وزارة التعليم العالي عام 2017، و»وسام المخترع الوطني المتميز» عام 2019، تكريمًا لعقل أنثوي اجتمع فيه الشغف مع الدقة.
ولم تكن انتماءاتها أقل ثراءً؛ فهي عضو في اتحاد الأدباء والكتاب، ونقابة الفنانين، ونقابة المعلمين، وعضو هيئة تحرير في مجلة عالمية، واستشارية في وزارة الصناعة والمعادن، وعضـــــــو الاتحاد الدولي للغة العربية. وكل انتماء من هذه الانتماءات يعكس جانبًا من هويتها المركبة: فنانة، أكاديمية، مخترعة، كاتبة، عراقية تعتنق الجمال كما تعتنق الوطن.
في سيرتها لا يمكن تجاهل حضورها الأنثوي الصلب، الذي كسر الصورة النمطية عن الأكاديميات، فهي لم تنكفئ على أبحاثها في برج عاجي، بل خرجت إلى العالم بمعارضها، بحواراتها، بمقالاتها، لتقول إن الجمال ليس ترفًا بل مقاومة، وإن الفن ليس زينة بل موقف.
صفا لطفي ليست مجرد سيرة ذاتية، بل نصٌّ مفتوح على الحلم. فيها يتجاور القديم مع الحديث، ويتصالح الطين البابلي مع الجدار الإلكتروني. وفي زمن التباسات الهوية، والبحث عــــــن المعنى، تقـــف صفا لطفــــي شاهدًا على أن العراق ما زال يولد من رماده، بفناناتـــــــــه، بمبدعـــــــاته، وبنساءٍ يشبهن الفجـــر حين يتسلل على صفحة الماء.