أذن وعين
ما لا تجده في غير السودان
عبد اللطيف السعدون
عرفت السودان عن قرب، أقمت في «العاصمة المثلثة» أربعة عشر شهرا في مطلع سبعينات القرن الراحل، تنقلت بين مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم عموم والخرطوم بحري وأم درمان، أتاح لي عملي الدبلوماسي التعرف الى سياسيين وصحافيين وكتاب، وأيضا مهنيين ومواطنين عاديين، واكتشفت في كل من عرفتهم طيبة متناهية وصفاء نية وحلو معشر.
ومن حسن حظي أن يكون من بين هؤلاء ناشط يساري كان يتردد على جار لي في الحي الذي أقمت فيه، وقد جمعتنا اهتمامات متقاربة، وأعطتني لقاءاتي القليلة به الكثير من المعرفة في الشأن السوداني، وأطلعتني على أمور لا يستطيع المسافر العابر الحصول عليها، وقد أفضيت له مرة باستغرابي من قدرة «العسكريتاريا» أن تحكم السودان سنوات طوالا، وأن تغرق البلاد في جحيم التفرد والفساد في الوقت الذي لم تستطع فيه القوى المدنية من أن تأخذ نصيبها في عملية التغيير، أجابني مازحا: «أننا أصحاب قلوب طيبة، وسرعان ما نخدع بمن يعدنا بالجنة لنكتشف متأخرين أنه يقذف بنا في الجحيم»!
خداع مواطنين
هكذا استطاع العسكر خداع مواطنيهم في كل مرة مستغلين «طيبة قلوبهم»، ونتمنى من كل قلوبنا، ونحن نتابع ما يجري في السودان هذه الأيام أن يحصل السودانيون على ما يأملونه من حرية وديمقراطية وتنمية، وهي الأقانيم التي شكلت محاور نضالهم طيلة عقود.
لم يكن الناشط اليساري الذي جمعتني به مصادفة غير محسوبة سوى القيادي الشيوعي الراحل محمد ابراهيم نقد الذي سيتبوأ لاحقا موقع الأمين العام للحزب بعد عبدالخالق محجوب الذي أعدمه نظام نميري مع مجموعة ناشطين وضباط يساريين اثر فشل انقلابهم الذي لم يدم سوى ثلاثة أيام، وقد كانت تلك المجزرة حدثا فارقا في تاريخ السودان الحديث، وسجلت خروجا على تقاليد وأخلاقيات السودانيين الذين عرفوا باحترام الخصوم وسماع آرائهم والتحاور معهم، وشيوع التسامح والمصالحات بينهم، وقد اعتاد السياسيون بمختلف تياراتهم أن لا تصل خلافاتهم الفكرية لحد القطيعة، وأن يلتقوا ويتزاوروا دون أن يصبح اختلاف الرأي دافعا للخصومة أو الحقد على النحو الذي رأيناه في أكثر من بلد عربي، ويعزو بعض الباحثين مبعث هذا الصفاء في العلاقة بين السياسيين الى الجسور التاريخية التي جمعت السودانيين بمختلف أعراقهم ودياناتهم وأصولهم القبلية، ورسخ هذا التنوع حالة توافق ومشاركة في فعاليات العيش اليومي على نحو قد لا نجده في مكان آخر، وفي رصد ملفت لباحث اكتشف أن سكان السودان يتكلمون بأكثر من عشرين لغة لكنهم يتآلفون وكأنهم نسيج واحد.
وربما كانت الطروحات الفكرية لرجال السياسة تغذي هذا التنوع على نحو إيجابي لا يؤسس لخصومة ولا يورث حقدا، وقد لا يعرف الكثيرون أن ثمة تلاقحا فكريا بين الماركسية والإسلام والعروبة لا نجده في غير السودان، كان عبدالخالق محجوب يؤكد دائما: « إن الإسلام والعروبة مكونان أصيلان في روح الشعب السوداني، ولا غرابة أن تجد تأصيلا لهذين المكونين لدى الماركسيين السودانيين»، وقد رفض خليفته ابراهيم نقد «كل دعوة تستصغر دور الدين في حياة الفرد وفي تماسك لحمة المجتمع وقيمه الروحية والأخلاقية»، وفي مذكرات ناشط سياسي سوداني أن نقد نفسه كان يؤم المصلين في سجن كوبر المشهور أثناء اعتقاله مع قادة وناشطين من مختلف التيارات اثـــــــــــر الانقلاب الذي قاده حسن أحمد البشير، وان إمام الطائفة المهدية الصادق المهدي ومرشد طائفة الختمية محمد عثمان الميرغني اللذين كانا ضمن المعتقلين لم يجدا ضيرا من أن يأتما به. ولسوف يستغرب القارئ إذا ما عرف أن محجوب نفسه كان يقرأ يوميا وردا من القرآن الكريم كما شهدت بذلك زوجته، وقد شهدت في فترة إقامتي هناك اجتماعا عاما نظمه الشيوعيون افتتح بتلاوة من القرآن الكريم، وذلك كله قد لا نجده في غير السودان!
ورغم أن العسكر السودانيين سعوا في كل انقلاب نفذوه الى تفتيت القوى المدنية وبذر الانقسامات فيما بينها إلا أنهم لم يفلحوا في كبح جماحها، وهذا ما لمسناه في الحراكات الشعبية المتواترة التي تهدف لإقامة حكم ديمقراطي يحقق الحرية، ويحترم حقوق المواطنة، وعسى أن يحقق السودانيون ما يأملونه.