نقش في الحجر وابتسامة لا تغيب
فاروق هلال لحن عراقي لن يترجّل
رياض شابا
اتذكره كثيرا ما من مناسبة تتعلق بعالم الالحان والنغم الاصيلين الا وقفز خياله امامي وتراءى لي وجهه الضاحك ابدا .كل هذه العقود الطويلة التي شهدت فراقنا في منتصف الثمانينات لم تنسني ابتسامه كبيرة لا تغيب عن شفتيه مهما كانت الاحوال والظروف المحيطة بمهامه
ومسؤولياته. كان حليق الشاربين وقتها، حسَنَ الهندام والمظهر دائماً، وبقي كذلك حتى أعياه المرض والكلل خلال السنوات الأخيرة. شخصية بمزايا طيِّبة كبيرة وبملامح جذابة محبوبة لدى معظم عارفيه. سريع البديهة، جميل المعشر، دائم التواصل مع زملائه، يتنقل بين الموائد المنتشرة في الحديقة الواسعة صيفاً، ويجوب أركان ذلك البيت الهَرِم المتآكل من الداخل شتاءً.
لا يكلفك العثور على المكان (جمعية الموسيقيين العراقيين) كبير عناء، فهو يحتل حافة من ساحة الأندلس قبالة فندق صحارى الصغير الأنيق، حيث الباص العتيد رقم 4 يفرغ (حمولته) من (بقايا) آلاف المتعبين والساهرين والدارسين الذين ينقلهم من ساحة الميدان وإليها عبر شارع الرشيد يومياً.
هناك، في ذلك المبنى الذي يغلف جدرانه خشب بُنِّيٌ يمنع سريان الرطوبة ويخفي الندوب، توطدت علاقتي بفاروق هلال طيلة سنوات السبعينات، تداخلت فيها الأيام بالألحان والأغنيات التي أنجزها لكثير من المطربات والمطربين.. إلّا أنَّ أول مرة ألتقي فيها مع فاروق، كانت في النصف الثاني من الستينات، وأنا طالب جامعي. حصل ذلك في مقر مؤسسةٍ عامة تعنى برعاية الشباب وتنهض بمهمات ثقافية وفنية، لا يحضرني اسمها الرسمي للأسف. مقرها بالوزيرية، ليس بعيداً عن مبنى (كلية الإدارة العامة)، (المعهد سابقاً) والذي شغلته كلية الحقوق لسنوات طويلة، حيث جسر الصرافية الحديدي وقطاره البطيء، خير دالة على المكان الزاخر بالحكايا والذكريات. وباعتباري طالباً ناشطاً اجتماعياً يمكن الاعتماد عليه، قصدت تلك المؤسسة دون موعد مسبق، في مهمة تسبقني هواجسي عنها مع كل خطوة، وفي خاطري سؤال مُلِحّ: هل سأنجح في مسعاي؟ إذ أن كليتنا بصدد الاحتفاء بطلبة السنة الدراسية الأولى من خلال حفلة تعارف، تختلف عن حفلة العام الماضي التي اعتمدت على امكاناتنا وحدها. لكننا هذا العام نتطلع الى مساهمة بعض المطربين أو مطرب في الأقل.
فنان معلروف
ولم يكن فاروق هلال وحده الذي تعرفت عليه في ذلك (النهار السعيد). وعندما رأيته هناك لم يخطر في بالي السؤال عن مهامه في هذا المكان، إذ أنه فنان معروف يتعامل مع العشرات في ميدانه وخصوصاً ذوي الطاقات اليافعة غير المكتشفة. ثم تملكني نوع من الزهو المقرون بالخجل وأنا أصافح أشخاصاً مثل المصور أحمد قباني والموسيقار الأكاديمي طارق حسون فريد والمخرجيْن مؤيد وهبي وعبد المرسل الزيدي وآخرين ربما.. ولم تكن المفاجأة الأولى والسارة بالنسبة لي، إصرارهم على مشاركتي إيَّاهم الغداء على مائدة تصدرتها سمكة مسكَوف كبيرة ساخنة مع مكملاتها العراقية، اتناولها مع صاحب (يا صياد السمج) وزملائه. اذ جاءت المفاجاة التالية، بحماستهم الواضحة للمساعدة في اقامة الحفل. أبدى فاروق استعداده للغناء بمصاحبة فرقة موسيقية كاملة تدعى (الجمهورية) .. والأجمل من ذلك أنه سيدعو وبثقةٍ راسخة المطربة الكبيرة مائدة نزهت للمشاركة، وهي التي اشتركت معه في أكثر من عمل عبر سنوات، وفي مقدمتها رائعته (سألت عنك) والتي حظيت بإعجاب وانتشار كبيرين. وتحقق ما جئت من أجله بالفعل، وجاء بعضهم قبل أيام من الحفلة الى مبنى الكلية للاطلاع على فقرات نقدمها نحن الطلبة، بينما أجرت الفرقة الموسيقية بروفات سريعة قبل بدء العرض بوقت قصير في قاعة (مصلحة السينما والمسرح القومي) قريبا من قاعة الخلد بكرادة مريم. وكانت ليلة لا تنسى تلك التي عشناها في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1966، التهبت فيها الأكف تصفيقاً، وتسابقت الشفاه صفيراً، وتمايلت الهامات طرباً مع (صانع) (ردت انساك) و(عالبال) و(حبيبي راح وما جانا)، وعشرات الأغنيات الأخرى. لكنهم ينقسمون فريقين عندما يؤدي فاروق أغنية تقول كلماتها: يا اسمراني حبك.. ..ما إنْ يتفاعل معها البعض، حتى يطالب (مناهضون) لهم باستبدال الأسمراني بالأبيضاني!! لتأتي مائدة نزهت من بعده وتكمل المشوار، وهي صاحبة (كل ما امرّ ع الدرب) و(اكَولن اه التوبة) و(كَالو حلو كل الناس تهواه) و(اسألوه لا تسألوني). ثم يشتعل (التصويت والتنافس) على الألوان ثانية مع (أحبك يا اسمر) و(يا ام الفستان الأحمر).. فهذا يطلب الأزرق وذاك الأسود وغيرهما الأخضر.. ورغم أنني لم ألتقٍ مائدة نزهت بعد ذلك التاريخ أبداً، فإن علاقتي توطدت مع البقية خصوصاً بعد دخولي ميدان الصحافة وأنا ما أزال أواصل الدراسة ثم تفرغي لمهنة المتاعب بعد التخرج 1967 _ 1968. صرتُ من خلال عملي في مجلة (الاذاعة والتلفزيون) خصوصاً، ألتقي باستمرار (البروفسور) طارق حسون فريد، العازف في السيمفونية وأستاذ الموسيقى. أراه كثيراً في مبنى المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون. أتبادل معه الأحاديثَ بالالمانية التي وجدته يجيدها رغم انه خريج (سلوفاكيا) المنشطرة عن (تشيكوسلوفاكيا).
الدكتور طارق، جاءني خلف الكواليس بعد انتهاء العرض قائلاً: (ينرادلك نص زين ومخرج زين).. وشكرته ضاحكاً رغم أنني لم أكن راغباً في التمثيل طبعاً، لأنني كنت قد اخترت المهنة التي ولدت من أجلها اساساً.
• عن موقع برقية